إذا ألقيت نظرة على الBنظمة السياسية العربية وحاولت التمعن جيدا فى واقعها السياسي ستجد أنها تتشارك فى أمور كثيرة ولعل أهمها على الإطلاق غياب التنافسية السياسية الحقيقية داخلها، حيث أن كل نظام يحاول أن يخلق محورية خاصة به تجعل منه متحكما فى المشهد السياسي لهذه الدولة أو تلك سواء كانت هذه الخصوصية ( المزعومة) ذات طابع ديني أو عسكرى أو عائلى أو مذهبي …الخ.
إلا أن أهم مظهر فى تصورى هو تغييب المعارضة الحقيقية وتشويهها وهذا برز كنتيجة هامة لتلك الخصوصية (المزعومة) التى تحاول كل دولة أن تبرر بها اغتيالها المعنوي لكل معارض لم يرضخ لمحاولة تدجينه من النظام الحاكم.
التشويه الممنهج للمعارضة وتكميم الافواه
إذا تحدث البعض فى ظل النظم الوراثية “الملكية” على سبيل المثال عن ضرورة تقنين القوانين ووضع الأسس التى توضح بجلاء حدود السلطات التى يجب ان يتمتع بها الملك أو الأمير وبخاصة فى ظل اتخاذه قرارات تتعلق بالسياسات العامة للدولة مع الأخذ بعين الاعتبار أنه وفي حالة فشل هذه السياسات فلن تكون هنالك أي محاسبة له باعتباره رمزا للسيادة أو لأنه يتم النص دستوريا على عدم خضوع قرارات السلطة العليا فى الدولة للتداول أو النقاش حتى من طرف السلطات الرقابية فى الدولة (البرلمان، والمحاكم الدستورية و الإدارية ) وهذا بلاشك يتعارض مع المبدأ القائل أينما وجدت السلطة لابد من وجود المسؤولية ، حيث لا يستقيم الأمر أن تكون هنالك سلطة ولا تتبعها مسؤولية، حالة كهذه قد تجدها فى كل الأنظمة العربية ذات الآلية الوارثية فى الحكم وبالتالى فمجرد الكتابة أو معارضة هذا النهج قد يكيل لقائله التهم تلو الأخرى كتقويض النظام السياسي والدستوري فى الدولة.
ولعل هذا الامر حدث ويحدث فى كثير من هذه الأنظمة السياسية بالرغم من أن الحديث عن الملكيات الدستورية فى جوهره قد يحمى هذه النظم السياسية نفسها، ويضمن توازنها السياسي، ويعضد من بقائها كضامن لاستقرار النظام السياسي ومن ثم تبعد إزدواجية ممارسة السلطة و غياب المسئولية السياسية وهو الامر الذي وإن لم يناقش جهرا وتترك له السلطات حيزا من النقاش العلمي الرصين الذي يستحضر مستلزمات النظام السياسي لكل دولة فإن هذا الأمر سيتم تداوله بل اشك سرا وفى ذلك خطر على هذه الأنظمة بمرور الزمن حيث سيؤدي تكميم الأفواه و ممارسة هذا الاغتيال المعنوي لكل معارض لهذه السلطات شبه المطلقة فى ظل فى هذا النوع من الانظمة السياسية الى الاتجاه لخيارات قد تهدد من إستقرار هذه النظم مستقبلا.
أيضا ما يلاحظ فى ظل الأنظمة الجمهورية العربية ومنذ أمد بعيد وحتى يومنا هذا استمرارية الاغتيال الممنهج لكل معارض حقيقي لهذه النظم حيث يتم تسخير الآلة الاعلامية المدعومة من النظام السياسي للترويج لهذا النوع من الاغتيال المعنوي من أجل ترسيخ فكرة العمالة للمعارض وتبعيته لجهات معادية للدولة سواء كانت هذه الجهات دول بعينها أو منظمات حقوقية محلية أو إقليمية أو دولية، أو أن هؤلاء المعارضين ينتمون لجماعات محظورة أو إرهابية …الخ وبالتالى يكون هذا الاتهام جاهزا فى كل حالة يخرج فيها أشخاص منتقدون لسياسة هذه الأنظمة أو رأس النظام فيها وإن كانوا بالفعل بعيدين كل البعد عن هذه التنظيمات السياسية التى يعرف عنها انتقادها الدائم لهذه النظم. فعلى سبيل المثال لا الحصر، بعد الثورة المصرية التى أطاحت بالراحل حسني مبارك وعندما تعالت الأصوات المنتقدة والمعارضة لسياسات الحكومة التى أتت بعد الثورة مباشرة خرج للسطح السياسي مصطلح ” فلول” وأصبح وسيلة للجم أي معارض يحاول أن يدلى برأيه فى مختلف القضايا السياسية والدستورية التى أعقبت نجاح الثورة بمصر وبالتالى تم تكميم أفواه كل معارضى ذلك الوقت ولعل هذا النهج ما يزال مستمرا اليوم من خلال وسم كل معارض للرئيس المصري الحالى أو لسياساته بأنه “إخواني” وأضحت تلك تهمة جاهزة يسوق لها إعلام يتحدث بنفس اللغة ونفس المواضيع فى ذات الوقت ولايحتاج الأمر لعناء من أجل إكتشاف تبعية هذا الإعلام وعدم استقلاليته مع تغييب تام لكل فكر معارض، ينتقد السلطة الحاكمة فى الدولة !!
ولعل هذا الواقع ذاته عانى منه السودان لسنوات طويلة حيث تمت محاربة المعارضين الحقيقيين وفتح الباب على مصرعيه للمعارضة المصطنعة التى تنتقد النظام وتشارك فى السلطة فى ذات الوقت وكانت أيضا تهم مثل، العمالة والارتكان للخارج جاهزة دوما لاغتيال هذه الشخصيات المعارضة ، واليوم وبعد نجاح الثورة وإزالة نظام سياسي استمر زهاء الثلاثون عاما ما زالت مفردة ” فلول” أو عبارة ” كوز” هى الرائجة لوسم كل معارض لسياسة المرحلة الانتقالية الحالية ولعل هذا أيضا إستمرار فى ذات النهج والثقافة السياسية التى تصنف كل معارض للسلطة بأنه إما تابعا لتنظيمات سياسية داخلية معادية لكل إصلاح سياسي داخل الدولة أو أنها معارضة تستمد أجندتها من الخارج المعادي لهذه السلطة ،أو أنها تابعة للنظام البائد وفى كلا الحالات فإن تبني وجهة النظر هذه وبإطلاقيتها يعتبر خطأ فادحا لأنه يؤدي إلى تكميم الأفواه المعارضة الحقيقية التى قد لايكون لها أي انتماء سياسي للنظام السابق ولا تحركها أيضا أي أجندة خارجية ، وبالتالى سيكون لهذا السلوك تأثير سالبي على الحياة السياسية فى الدولة، وسيحجم من دور أي معارضة حقيقية تحت مسميات متعددة وهو ما سيجعل الساحة السياسية ذات لون واحد وهذا بحد ذاته أخطر على الدولة من أي عدو خارجى يتربص بالنظام السياسي أو الدولة ككل ، ولذلك فإن غياب المعارضة الحقة تترتب عنه أثمان باهظة !!!
غياب المعارضة الحقيقة والثمن الباهظ
أشبه المعارضة الحقيقية( بالمرآة ) التى ينظر من خلالها النظام السياسي لكل ما يدور داخل الدولة وبالتالى سيظهر من خلالها ما يجب فعله وما لا يجب، أو تنفيذ سياسات بعينها أو التراجع عنها وبالتالى فإن هذه (المرآة) تجعل من الصورة داخل النظام السياسي مكتملة والنتيجة المباشرة لها تتمثل فى أنها ترضي الجميع داخل هذا النسق السياسي !!!!
وقد قيل قديما رحم الله امرئ أهدى لى عيوبي ، ولعلنا نحفظ خطبة سيدنا أبوبكر الصديق رضي الله عنه بعد مبايعته فى سقيفة بني ساعدة كخليفة للمسلمين وكذلك الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه كأمير للمؤمنين و اللذين دعيا الى تقويمهما إن أخطئا أو حادا عن جادة الصواب، وهذا لعله فهم متقدم لأهمية الرأي المعارض الذي يخدم ذات الفكرة بل وقد يكون أصوب مما يظن صاحب القرار السياسي !
ولعل قراءة تاريخية متأنية لحال المعارضة السياسية الحقيقية المغيبة تحت ذرائع متعددة منذ أمد بعيد فى بلدان مختلفة من الناحية السياسية والدستورية فى المنطقة العربية أدت الى أن دفعت العديد من هذه الأنظمة الثمن باهظا سواء على مستوى الدولة ومن ثم المجتمع بأكمله أو على صعيد القيادات السياسية التى لم تقبل بوجود رأي يخالف وجهة النظر الرسمية.
فواقع الدول العربية اليوم ماهو الا انعكاس مباشر لهذا الغياب الممنهج للمعارضة الحقة التى تخلق حالة التوازن السياسي داخل أي نظام سياسي ، فحالة عدم الاستقرار السياسي أو الاحتراب الداخلى والتشظي المجتمعى والاستقطاب العقائدي والمذهبي والبعد القبلي …الخ وجدت تربتها الخصبة فى تغييب المعارضة السياسية الحقة التى تخلق ذلك التوازن داخل أي نظام سياسي دون تمييز أو تخوين أو تشويه أو تكميم للأفواه.
إن المستفيد الأول من وجود المعارضة الحقة دائما هى السلطة الحاكمة التى تستطيع الاستفادة من جميع الأراء المناهضة أو المخالفة أو المشككة فى السياسات العامة للدولة وهو الأمر الذي سيغيب لا محالة بغيابها (المعارضة)، وهو ما سيفتح المجال للبحث عن حلول قد تحمل فى طياتها بذور دمار الدولة والمجتمع ككل وهو ماحدث ويحدث حاليا فى بعض الدول العربية ونشاهده يوميا فى نشرات الأخبار والبرامج السياسية منذ سنوات عديدة وما زال المسلسل مستمرا !!!!
* باحث فى العلوم الدستورية والسياسية ، كاليفورنيا، الولايات المتحدة الأمريكية
تعليقات الزوار ( 0 )