الطموحات في واد والوقائع في واد آخر، لكن إن عجز القادة المغاربيون اليوم، ولاعتبارات شتى، حتى عن الجلوس إلى طاولة واحدة، وترك خصوماتهم وخلافاتهم جانبا، ووضع الكيان المشترك الذي طمح له أجدادهم على رأس اهتماماتهم، فهل يعني ذلك أن الأبواب سدت تماما، ولم يعد مجديا أي مسعى للتحايل على ذلك الحاجز الصعب الذي يحول دون تحقيقه؟
وبعبارة أخرى إن كان توافق الخماسي المغاربي واجتماعه، قد بات أمرا مستحيلا، ألن يكون من السهل بالمقابل، أن تكون اللقاءات والاتفاقات الثنائية، التي قد تحصل بين الحين والحين بين بلد مغاربي وآخر، مفتاحا احتياطيا يسمح بالوصول التدريجي إلى تجسيم الحلم المغاربي ولو على مراحل؟
قد يكون مجرد التفكير في ذلك في حد ذاته، دليلا قويا على أن الآمال العريضة للأجيال السابقة في إنشاء ذلك الكيان قد تقلصت بشكل ملحوظ، إن لم يكن جزؤها الأكبر قد تبدد الآن بالفعل، غير أن أقل ما يفترضه الإقرار بالواقع، هو الاعتراف بأن سقف الطموحات في هذا الظرف بالذات، صار محدودا ومنخفضا للغاية. غير أن الطريق مع ذلك لم تسد تماما، فما لا يدرك كله لا يترك جله، ومادام القادة الخمسة منقسمين وعاجزين عن التحرك الجماعي، فإن الفعل الثنائي لن يكون، ومن حيث المبدأ، غير مقبول أو غير مفيد لهم جميعا، ولن يكون كذلك غير مطلوب، بل لعله قد يسمح كما يعتقد البعض بإبقاء جذوة الأمل حية، وقد يكون في حال توفر بعض المقتضيات والشروط والظروف، خطوة محمودة ومعقولة، ربما تقود، إن عاجلا أم آجلا، إلى جمع الشمل المغاربي بأسره، لكن ألم يحاول المغاربيون مرات ومرات عقد اتفاقيات وتفاهمات، وحتى مشاريع اندماج ثنائية، لم يراكموا منها إلا الفشل تلو الفشل، والخيبة تلو الخيبة، ولم يجنوا من ورائها أي نفع جلي، وواضح لا لشعوبهم ولا للصرح المغاربي في حد ذاته؟ فما الذي سيحصدونه بعدها من السير مجددا في طريق تيقن الجميع أنها غير سالكة؟ إن السؤال المركزي هنا هو ما الذي دفعهم لذلك؟ وما الذي جعلهم يعتبرون أن ذلك النهج سيؤدي بهم إلى الهدف النهائي، أي بناء الاتحاد المغاربي؟ وهل كانت كل تلك المحاولات الثنائية، فرصا واعدة لإنعاش ذلك الاتحاد؟ أم مناسبات سانحة لقنصه والإجهاز عليه؟
بعيدا عن محاكمة النوايا، ربما يلقي بعض ما ذكره الرئيس التونسي الراحل الباجي قائد السبسي في كتابه «الحبيب بورقيبة المهم والأهم» بصيصا من الضوء على تعقيدات العمل الثنائي، وما يشكله من حساسية لدى الجيران المغاربيين. فهو يقول في كتابه، إنه أخبر العقيد القذافي في أول لقاءاته به، مطلع السبعينيات، في الجزائر أن بناء المغرب العربي الكبير يستحق التزاما كاملا، غير أن العقيد ردّ عليه حينها بأن «الوحدة العربية قبل كل شيء» وأن «مشروع المغرب العربي يبطئ مشروع الوحدة العربية العظيم، بل ربما يبطله». ويزيد فيضيف أنه لما التقى بعدها، وفي اليوم الموالي، الرئيس الجزائري الراحل بومدين، أعلمه أن «العقيد القذافي يعطي انطباعا بأنه رجل حالم. وهو شاب صريح يقول ما يعتقده. له قناعات جاهزة، ولكن على أسس بعيدة تماما عن الواقع. ومن الواضح أنه لا يؤمن بالمغرب العربي، ولهذا فإنه سوف يؤخرنا، بل إنه قد أخرنا بالفعل. وفي هذا الظرف الجديد يجب علينا أن نسجل موقف ليبيا الجديدة، وأن نفكر معا من أجل إنقاذ المغرب العربي» فما كان من بومدين إلا أن ردّ عليه: «سوف نبني المغرب العربي حتى ولو كنا اثنين إن لزم الأمر». ولكن المفاجأة هي أنه لما عاد قائد السبسي إلى تونس، وقدّم تقريرا بذلك إلى الوزير الأول الباهي الأدغم، انتفض الأخير بوجهه، كما ذكر، وصرخ قائلا «المغرب العربي بين اثنين؟ هذا بالضبط ما ينبغي تجنبه». ولسوء حظ الأدغم فإن نصيحته تلك سقطت سريعا في الماء، بعد أن وقّع الرئيس الراحل بورقيبة بعدها بشهور قليلة، مطلع السبعينيات أيضا مع العقيد القذافي اتفاق إنشاء «الجمهورية العربية الإسلامية» والمفارقة العجيبة حقا هي أن نص الإعلان عن تلك الاتفاقية، التي لم تدم سوى أربع وعشرين ساعة لا غير، كان يشير إلى أن الدولة الجديدة ستكون لبنة على طريق تحقيق الوحدة المغاربية والعربية، لكن ما الذي كان يعنيه كل ذلك؟
إن عقدة الحل والربط تدور حول مسألتين مفصليتين وهما، غياب الثقة وانعدامها تماما بين الأقطار الخمسة، وتوجس كل قطر من الآخر، ثم فقدان كل بلد لتصور حقيقي وواقعي لفكرة الوحدة المغاربية، وتبنيه على عكس ما يقوله ويعلنه لخطط ومشاريع ظرفية، مبنية فقط على رؤى ضيقة ومحدودة لمصالحه وعلاقاته الإقليمية، ولعل اختلاف الأحجام والتوازنات هو العامل الحاسم والمحدد في ذلك. فقد أثبتت التجارب أن العملاقين المغاربيين، أي المغرب والجزائر، هما المحرك الفعلي للاتحاد المغاربي، وأن اي تفاهمات أو محاولات ثنائية من هذا البلد المغاربي أو ذاك، لن تُكلل بالنجاح المطلوب، ما لم تشمل البلدين الكبيرين معا، وفي وقت واحد، فأي تقارب ملحوظ لتونس مع الجزائر مثلا لن يفهم في الرباط، إلا على أنه عمل مسيء للمغرب، مثلما أن أي تقارب زائد لموريتانيا مع المغرب لن يفسر في الجزائر إلا على أنه عمل عدائي وغير ودي نحوها، ولأجل ذلك فقد حرص البلدان الصغيران، أي تونس وموريتانيا، وبقدر من التفاوت على الحفاظ على نوع من التوازن الصعب في علاقاتهما مع الجارتين الكبيرتين، رغم أنهما أظهرا في بعض الفترات نوعا من الميل لجار على حساب الآخر، ولكن هل يعني ذلك أن الاتحاد المغاربي لن يرى النور، إلا في حال حصول توافق مغربي جزائري على وجوده؟ ثم إن كان الملف الأكثر تعقيدا بين الاثنين هو ملف الصحراء فهل يعني ذلك أنه لن يكون هناك اتحاد مغاربي، إلا بعد أن تحل المعضلة الصحراوية بشكل نهائي ومقبول؟
الثابت أن الدول الثلاث، أي ليبيا وتونس وموريتانيا، تدرك ذلك جيدا. والمؤكد أنها لا تريد بالمقابل، عدا بعض المحاولات البسيطة، كتلك التي قام بها الرئيس الراحل بورقيبة، أي تدخل أو وساطة بين الجارتين المغاربيتين، لإيجاد ذلك الحل، بل لعلها تفضل استثمار تواصل الصراع بينهما، لكن الأهم من ذلك هو هل سيكون باستطاعة الدولتين الكبيرين أن تتنازلا قليلا عن طموحاتهما الإقليمية، لأجل بناء ذلك المغرب الكبير؟ حتى الآن لا شيء يوحي بذلك. وهذا ما يجعل كل الاتفاقات والمبادرات الثنائية تذهب أدراج الريح بغض النظر عن طبيعتها، وعن الغايات الأصلية من ورائها، ومع كل ذلك فلا يترك الإعلام الرسمي في الدول الخمس فرصة تمر بدون أن يعيد ويكرر، بان تلك الاتفاقات إنما جاءت فقط، أولا وأخيرا لأجل عيون الوحدة المغاربية العزيزة جدا على قلوب القادة وشعوبهم.
تعليقات الزوار ( 0 )