Share
  • Link copied

الإستوغرافيا… كتاب جديد يرصد منعرجات الكتابة التاريخية

صدر أواخر سنة 2020 عن دار رؤية المصرية كتاب جديد للباحث خالد طحطح الحاصل على شهادة الدكتوراه من كلية الآداب بالرباط (2015)، وهو بعنوان الاسطوغرافيا، وينضاف هذا الكتاب إلى سلسلة من مؤلفاته السابقة الصادرة عن دار توبقال المغربية (الكتابة التاريخيةعودة الحدث التاريخيالبيوغرافيا والتاريخالتاريخ وما بعد الكولونيالية ). والتاريخ من أسفل (باشتراك) الصادر عن منشورات الزمن المغربية سنة 2016 وأعيد طبعه ثانية لدى دار رؤية بمعية كتابه الآخر ما بعد التاريخ الجديد.

هل يمكن أن يتبرأ السرد يوما من تحرشه بالتاريخ؟

  نقرأ في كلمة الغلاف ما يمكن أن نسمه بالجواب: “إن التهمة ثابتة بالتأكيد، فكثير من الدلائل نجدها في أعمال تخييلية كثيرة، لكن التاريخ أيضا متهم، ليس بجريرة التحرش والإغواء فقط، وإنما بتهمة الاغتصاب والاستدراج بالقوة، والشهود من حقول العلوم الاجتماعية والمساعدة كثيرة جدا ومتواترة، فقد ضبط التاريخ في أبحاث رائدة متلبسا بالأنتروبولوجيا كما بالاقتصاد والسوسيولوجيا. لم ينكر التاريخ أبداً ميولاته الشبقية نحو الهيمنة والاستحواذ على باقي العلوم الاجتماعية واستلاب مناهجها، لكنه أبداً لم يتهم بالتجارة فيها ولا باستغلالها، فتلك جريرة من يتهمونه بها.  ثم إن القاضي أصدر ذات يوم حكماً غير قابل للنقض، إذ استنادا إلى قاعدة الضرورة وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب رخص للتاريخ بأن يحافظ على زواجه اللاشرعي وعلى علاقاته التعددية لكي يحافظ على تواجده ويستكمل مسيرته”.

قد يبدو الكتاب غريبا من عنوانه على القارئ العادي، وتزيد كلمة الغلاف من هذه الغرابة، فهو يبدو معقدا في مضمونه، بيد أن المؤلف استطاع أن يبسط الموضوع والقضايا التي يناقشها، ويضخ فيها ماء الحياة، فأنت حين تقرأ الكتاب وتتوغل في قضاياه تحس وكأنك تشاهد دراما إنسانية تتلون وتتغير بالصراعات والأحداث التي يقودها المؤلف ويسوقها التتابع المرئي لوقائع تطور الكتابة التاريخية.

يجعل الكاتب من التاريخ كائنا حيا، ويضخ فيه من الأحداث فيستحيل التاريخ وحشا كاسرا يغزو ما حوله من العلوم الإنسانية، ويدمر بضرباته القوية استقلال كل الحقول المعرفية الإنسانية ويستحوذ عليها، ويتابع خالد طحطح التأريخ لمسيرة التاريخ الحي باستعراض واف لأهم المدارس التاريخية.

يتناول المؤلف خالد طحطح في الباب الأول من الاسطوغرافيا خصائص الكتابة التاريخية لدى المدرسة التاريخية المنهجية (الوضعانية) في فرنسا، والتي تأثرت بمفاهيم المدرسة التاريخية الألمانية الرانكية التي لم تتخلص بشكل نهائي من الآثار السلبية لكرونوزوفيات فلسفات التاريخ، وكرونوزوفيا Chronosophie مصطلح راج استخدامه في الكتابات التاريخية الجديدة، استخدمه لأول مرة المؤرخ كريستوف بوميان في كتابه “نظام الزمان“، واستعاره فرانسوا هارتوغ في كتابه “تدابير التاريخانية” ووظفه فرانسوا دوس لاحقا في كتابه “انبعاث الحدث“. ومن المعلوم أن الكرونوزوفيات تطلعت إلى التحكم في المجرى العام للمسار أو للتاريخ أو للصيرورة أو للزمان. وقد وُسِمَتْ التاريخانيات التقليدية بالكرونوزوفيات، وهي التي سبق وأن تناولها المؤلف بتفصيل في الفصل الأول من كتابه الكتابة التاريخية الصادر عن دار توبقال سنة 2012.

     في الباب الثاني تطرق المؤلف إلى التطورات الاستوغرافية الجديدة التي عرفتها الكتابة التاريخية مع صعود نجم مدرسة الحوليات. ما سيُميز أعمال مؤرخي هذه المدرسة الرائدة منذ نشأتها في ثلاثينيات القرن العشرين رفض التاريخ الحدثي والسياسي والعسكري والفردي، وسيتعزز هذا الرفض أكثر فأكثر مع الجيل الثاني والثالث لهذه المدرسة التاريخية، وقد واكب هذا الرفض للتاريخ السياسي رفض للتاريخ الوطني بمفهومه الضيق، وتم الإعلان عن إفلاس التاريخ العسكري وتاريخ الحروب خصوصا بعد صدمة الحرب العالمية الأولى التي خلفت استياء كبيرا لدى الفلاسفة والمفكرين لوحشيتها ونتائجها السيئة ولأضرارها الوخيمة على البشرية اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا. هذا الاتجاه الجديد في الاستوغرافيا ابتعَدَ عن طوع التاريخ الرسمي الذي فرضته الحكومات والدول على البرامج والمقررات في المدارس والجامعات، وتَمَرَّدَ على اللعبة السياسية وعلى الأحزاب بإيديولوجياتها المختلفة، وأسس بدوره لايديولوجية جديدة سرعان ما ستعاني بدورها من رجات، وهي التي وسمها المؤلف بــ “أزمة الاستوغرافيا” في فرنسا، والتي بدأت تبرز مع الجيل الثالث لمدرسة الحوليات، وهذه المسألة سيعالجها الفصل الثاني من الباب الثالث، فمع أواخر ثمانينيات القرن الماضي دخل التاريخ منعطفا خطيرا، لقد أصبح مهددا في هويته ومعالمه، إنها مرحلة “أزمة التاريخ الاجتماعي والاقتصادي” في سياق مجموعة من التغيرات، حيث وجد المؤرخون الجدد أنفسهم وجها لوجه مع بداية انبعاث ما كان مرفوضا منذ نشأة الحوليات: عودة الحدث، عودة التاريخ السياسي، عودة البيوغرافيا، عودة السرد، انبعاث التمثيل التاريخي، صعود نجم الرواية البيوغرافية.

في أطروحة التمثيل التاريخي التي وقف عليها الباحث خالد طحطح يتبين بعض التجديد الاستوغرافي، حيث اعتبرها رؤية مضادة للمفاهيم التقليدية التي سادت في الكتابة التاريخية بما في ذلك الحوليات، وتعتبر التاريخانية الجديدة مظهرا من مظاهر هذه الرؤية، وقد انطلقت أولا من الولايات المتحدة الأمريكية نهاية القرن الماضي، وكان رائدها ستيفن غرينبلات. وقد وُسِمَ في البداية هذا التوجه باسم “الشعرية الثقافية” وذلك سنة 1980 ليتم بعد سنتين من ذلك استبداله بمصطلح جديد، وهو “التاريخانية الجديدة”، ثم ما لبث أن تمت العودة ثانية للمصطلح الأول وذلك سنة 1988. ويشير غرينبلات في مقال شهير له بعنوان “نحو شعرية الثقافة” إلى أن مصطلح التاريخانية الجديدة لم يكن صياغة واعية مقصودة لوصف منهج محدد في دراسة تاريخ الأدب، وإنما اقتبسه من مقالة له وردت في مقدمة كتبها تصديرا لمجموعة دراسات أدبية حول فترة عصر النهضة، جمعها وحررها في كتاب وسمه بـــ عصر النهضة وتشكيل الذات (أنظر: ستيفن غرينبلات وآخرون، التاريخانية الجديدة والأدب، ترجمة لحسن أحمامة، المركز الثقافي العربي)، ويوضح الكتاب أن استخدام هذا المصطلح جاء بصورة عفوية ومن غير سابق دراسة وتخطيط، حيث فوجئ من انتشاره السريع وذيوعه، وبات متداولا في الدراسات الأدبية ونظرية الأدب بالتحديد. وبالموازاة مع هذا التوجه نشر المؤرخ الأمريكي لورانس ستون مقالة بعنوان: “عودة السردية” سنة 1979م، وفيها تطرق لبروز سردية جديدة في غالبية الأعمال التاريخية، وبخاصة بعد أن تبنى المؤرخون الاجتماعيون والثقافيون أساليب السرد في عرض منتوجاتهم التاريخية. وقد كان لمقالته هذه وقع كبير على دارسي الكتابة التاريخية، حيث اعتبر كثيرون منهم أن عام 1980 يمثل بداية المنحى السردي، ليس في التاريخ وحسب، بل في مجمل العلوم الإنسانية. 

   إن التيار التاريخاني الجديد القائم على النزعة اللغوية يؤكد أن التاريخ يعتمد على اللغة والسرد للتبليغ مما يجعل منه قصا تاريخيا. ويحدد هايدن وايت في مناسبات كثيرة الاستعارات والوسائل السردية المشتركة بين التاريخ والرواية وتشاركهما باللغة، ليخلص إلى أن مراجع التاريخ ليست موجودة بشكل مسبق تنتظر من يكتشفها ولكنها تركب تركيببا، وعليه ففكرة امتياز السرد التاريخي باعتباره يمتلك القدرة على الوصول إلى الحقيقة تكون قد قوضت بشكل نهائي أمام هذا التوجه، فنكون أمام ما يُعتقد أنه قد حدث وليس أمام ما حدث فعلا، لأن التاريخ هو عملية إعادة بناء.

    اعتبر الكثيرون ومنهم روجيه شارتييه عمل هايدن من أهم الأعمال التي أخضعت التاريخ إلى “المنعرج اللساني” حتى أن هذه المعاينة في جهة أخرى كانت مشتركة بين خصوم وأنصار هذا المنعرج، حيث تمت عملية إعادة تشكيل العلاقة بين التاريخ والخيال، والتي قام بها بالإضافة إلى تيار المنعرج اللساني، تيار التاريخانية الجديدة السالف الذكر، وتقوم فكرتهما معا على تاريخية النصوص وتناصية التاريخ، فهما يتعاملان مع المصادر التاريخية والمراجع باعتبارهما نصوصا أدبية. بهذا المعنى الجديد يمكن للراوي أن يتقمص دور المؤرخ إلى أبعد الحدود، ذلك ما فعله امبيرتو ايكو في رواية اسم الوردة، إذ مزج بشكل مبهر بين البحث التاريخي المكثف ووظفه في قالب سردي بوليسي مشوق من خلال توظيف آليات السرد والسِّيمائيات التي أبدع فيها.

    لقد جعلت الرواية الجديدة من نفسها جنسا أدبيا ذا قيمة أكاديمية ووسيلة لإعادة اكتشاف الماضي وتخيله بطرائق غير تقليدية، فمهمة الروائي لم تعد تتحدد في تمثيل الماضي الذي لم تحدثنا عنه كتب التاريخ بوضوح، بل تجعل التاريخ الذي حدث أكثر مفهومية. وفي هذا المقام يطرح ما سماه هذا الروائي الإيطالي “تأويل الواقع” باعتباره تخييلا سرديا، فهو لا يقر بوجود نص عاكس للواقع في كليته وحقيقته الصافية، فبينما ننغمس بتأويل الواقع نُدرج بعض العناصر التخييلية ضمنه.

    هل يمكن للتاريخ أن يستعيد قصة الماضي؟ وما مدى محاكاة التاريخ لحقيقة الماضي؟ تلك هي مهمة أطروحة التاريخانية الجديدة، ومهمة تيار ما وراء السرد، هذا المفهوم الأخير سرعان ما سيفرض نفسه بقوة من داخل الرواية ومن داخل التاريخ أيضا، فهو يعالج مشكلة العلاقة بين الخطاب السردي والتمثيل التاريخي، وقد أصبحت أفكاره تشكل، اليوم، توجها رائدا وتيارا ممتدا قائم الذات يدعى التمثيل التاريخي ورائده هايدن وايت، وهو يركز على محتوى الشكل أكثر من تركيزه على نقل الحقائق.

Share
  • Link copied
المقال التالي