وثيقة هي كل أثر قديم أم حديث، من شأن الرجوع اليه واعتماده على هذا المستوى وذاك لإثبات أمر ما أو نفيه. وليس كل أثر مكتوب وثيقة فحسب، انما أيضا ما هو تجلي مادي من مباني أثرية ومسكوكات وأدوات .. الخ. وغير خاف ما طبع البلاد الاسلامية عموما من عناية بالوثيقة والمستند من قبيل ما هو كنانيش وتقاييد ونوازل..، وبخاصة ما احيطت به هذه الأخيرة زمن الخلافة الأموية والعباسية. وقد شملت وثائق هذه الفترة جوانب عدة ثقافية وحضارية، منها ما طبع أنظمة حكم البلاد وإدارتها وأنماط عيش مجتمعها ..، إثر ما شهده مجال الكتابة والتدوين وكذا السجلات والمكتبات والمدارس ودور الحكمة من اتساع، وإثر أيضا ما حصل من تنافس بين العلماء في مجال الكتابة والتأليف والتصنيف الذي شمل عددا من العلوم. هذا قبل أن تشهد البلاد الإسلامية ما شهدته من تخلف عن الركب ومن تراجع وحروب وفتن وغيرها، والتي لا شك أنها كانت بأثر فيما أصاب وثائقها وآثارها ومن خلالهما الأرشيف الإسلامي عموما من اتلاف واهمال. وعليه، ضاع ما ضاع من ذخائر عبر الزمن لأسباب عدة ومتداخلة، جمعت بين ما هو رطوبة وأرضة وطبيعة فضلا عن أثر الانسان من قبيل الاحراق، قبل أن يتعرض هذا الأرشيف لسلب ونهب استعماري منذ القرن الثامن عشر، عندما تمكن من ذخائر كبيرة عمل على نقلها الى خزانات البلدان الاستعمارية، وفي خزانة “دير الاسكوريال” قرب مدريد أكبر دليل، وقد امتلأت رفوفها بكتب خزانة السلطان زيدان السعدي بالمغرب.
ولعل من المهم الإشارة الى أنه رغم ما تعرض له الأرشيف العربي الإسلامي، ومنه الأرشيف المغربي من اهمال واتلاف وسلب استعماري. لا تزال أرصدة هذا الأخير بقدر كبير من الأهمية والقيمة الرمزية والاتساع، وهو ما تم التوجه اليه بالعناية بعد استقلال البلاد بشكل مواز مع إحداث جامعات ومراكز ومعاهد بحث علمي في عدد من المجالات. ومن ثمة ما طرح حينئد من تحديات تخص حماية هذا الأرشيف وتطويره وتدبيره بطرق حديثة فضلا عن حسن استثماره. رهان وتطلع وورش وطني من جملة ما اقتضاه أهمية جمع هذا الأرشيف في مؤسسات مستوفية لشروط الحفظ، علما أن جزء هاما وواسعا لا يزال في حوزة وبيوت الأسر المغربية، وقد انتقل عبر الفترات بين خلف وسلف، خاصة من هذا السلف من كان بمهمة إدارية ضمن دواليب الدولة. ومن هنا فإن مما ينبغي أن يتوفر لجمع هذه الأرصدة الارشيفية الوطنية حماية وحفظا لها، وعي الأسر والبيوت المغربية بهذا الأمر والتطلع وبأهمية ارجاع هذا الرشيف للإدارة الوصية “مؤسسة أرشيف المغرب”، أو على الأقل تصويره ونسخه من اجل استثماره عبر وضعه رهن إشارة ما هو منشود من خدمة على هذا المستوى وذاك. دون نسيان ما ينبغي من استرجاع لأرشيف المغرب الكائن بالخارج هنا وهناك، ذلك الذي تم سلبه خلال فترة الحماية، ودون نسيان أيضا أنه لن تكتمل العملية عموما دون ما ينبغي من جرد علمي وترتيب وفهرسة وتصنيف وتعريف وإبراز وكذا من رقمنة.
وفي هذا الاطار تعمل مؤسسة أرشيف المغرب جاهدة منذ سنوات عبر أطرها المختصة في الشأن، من أجل استعادة كل ما يمكن من وثائق تاريخية مغربية هي في حوزة أرشيفات دول اجنبية. ضمن ما تحقق على مستوى استرجاع بعض الأرشيف التاريخي المغربي من خلال اتفاقيات دولية وشراكات وتعاون، وما ينظم من انشطة ولقاءات وزيارات بين مؤسسات وسفارات اجنبية وغيرها من حين لآخر، للحصول على الأرشيف المغربي المحفوظ هنا وهناك من الأطراف التي لها علاقة بالمغرب. ولعل أفق استرجاع الأرشيف المغربي لا يهم ما يتصل بالخارج فقط، انما أيضا بما يوجد داخل البلاد عبر استعادة مؤسسة أرشيف المغرب لأرصدة تاريخية عن المكتبة الوطنية والتي تخص وثائق الإدارة الفرنسية زمن الحماية، فضلا عن مجموعات ارشيفية خاصة اغنت ارصدة المؤسسة خلال السنوات الأخيرة وقد توزعت مجالاتها على التاريخ والسياسة والأدب والفن والهندسة .. ومن هنا ما شكلته مؤسسة أرشيف المغرب منذ إحداثها من تحسيس وتعبئة وفعل وتفاعل وورش، يخص ليس فقط تجميع الأرشيف الوطني انما أيضا تثمينه وإعادة الاعتبار اليه مع الحرص على صيانته وحمايته ورقمنته وفق ما هناك من معايير حديثة معتمدة.
ورغم ما يسجل لفائدة أرشيف المغرب من جهود وتراكمات عملية وعلمية منذ إحداثه قبل حوالي العقد من الزمن، فالأمر لا يزال خجولا بالنظر لِما هناك من تطلعات في هذا الاطار، أمام ما لا يزال مطروحا من تحديات تخص مثلا تسليم السلطات الفرنسية للمغرب ما بحوزتها من وثائق أرشيفية تؤرخ لفترة حرجة من تاريخ البلاد ويتعلق الأمر بفترة الحماية، وهو ما تصر عليه وتعمل من اجله مؤسسة أرشيف المغرب المحدثة بموجب القانون رقم 69.99 المتعلق بالأرشيف، عبر مراسلات رسمية للسلطات الفرنسية المعنية منذ عدة سنوات. ولا شك أن عدم تفاعل هذه الأخيرة ينبع من هواجس تخص إعادة كتابة تاريخ جديد، لطبيعة ما كان قائما من علاقات وواقع وأحداث وغيرها، فضلا عن هاجس استرجاع ذاكرة المغرب التي ارتبطت بفترة الحماية. وغير خاف أن الأرشيف هو الذاكرة، وهذه الأخيرة هي تاريخ افراد وجماعات وشعوب، وأن مصادرة هذا الأرشيف ووضع اليد عليه ومنعه هو مصادرة لتاريخ وذاكرة وماض، وعليه ما يسجل حول استعادة المغرب لأرشيفه من معركة سياسية وثقافية.
وكان المغرب ومن خلاله مؤسسة أرشيف المغرب، قد استرجع ملايين النسخ المرقمنة لوثائق وصور وخرائط تتعلق بفترات مضت من تاريخ البلاد، من عدد من الأرشيفات الأجنبية سواء العمومية أو الخاصة، وهي العملية التي جاءت نتاج تنسيق وعمل مشترك بين مؤسسة أرشيف المغرب ومصالح وزارة الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج. وعليه، عن الأرشيف الأجنبي العمومي، تمكن المغرب من الحصول على نسخ مرقمنة لوثائق أرشيف المفوضية الفرنسية بمدينة طنجة عن الفترة ما بين 1892 – 1904 والمحفوظة بمركز الأرشيف الدبلوماسي الفرنسي بنانت، فضلا عن أرشيفات ووثائق مرقمنة تهم تاريخ اليهود المغاربة بمركز الأرشيف الدبلوماسي الفرنسي بنانت أيضا، وكذا نسخة رقمية لسجلات تهم التلغراف الخاص بمؤسسة البريد بمدينة الرباط في الفترة الاستعمارية الممتدة من 1913 حتى 1918، الى جانب نسخ رقمية متعلقة بوضعية اليهود المغاربة في فترة الحرب العالمية الثالثة محفوظة بمتحف الهولوكوست بواشنطن. وعن العلاقات المغربية البرتغالية تمكن المغرب من الحصول على مئات الوثائق الرقمية عن مراكز الأرشيف بالبرتغال، فضلا عن وثائق تهم العلاقات المغربية الأردنية خلال خمسينات وستينات القرن الماضي. وحول الارشيفات الخاصة يسجل لمؤسسة أرشيف المغرب ما بات بحوزتها من نسخ رقمية تهم عائلة قرقوز اليهودية، وهي وثائق تاريخية تؤرخ للعلاقات التجارية والسياسية التي زاولها يهود مدينة الصويرة ومراكش أواخر القرن 19 وبداية القرن 20. فضلا عن وثائق وصور تهم العالم الأنتروبولوجي الأمريكي دافيد هارت، المرتبطة بتاريخ منطقة الريف (هبة من الباحث الأنتروبولوجي الأمريكي روس دان) إضافة إلى هبة في الموضوع ذاته من لدن مؤسسة دافيد هارت. وكذا نسخة رقمية لصور تخص الفترة الاستعمارية الفرنسية بالمغرب، تعود للفرنسي ديزيري سيك عن الفترة ما بين 1912 و1933، ناهيك عن مذكرات وصور تهم الفرنسي إيجان رونو والوزير المفوض بطنجة، والموقع على معاهدة الحماية الفرنسية بفاس في 30 مارس 1912. وحول مجال التعمير والهندسة زمن الحماية حصلت مؤسسة أرشيف المغرب على أرصدة مهندسين معماريين فرنسيين. هكذا رغم كل الاكراه الكائن وفي ظرفية وجيزة من عمر المؤسسة، استرجع المغرب والي 4 ملايين وثيقة، تخص الحقبة الاستعمارية على امتداد 42 سنة بين 1912 و1954. وكان المغرب قد طالب السلطات الفرنسية باسترجاع أرشيف عبد الكريم الخطابي، من خلال مذكرة كتابية توجه بها المجلس الوطني لحقوق الإنسان عن طريق السلك الدبلوماسي، إلى الأرشيف الدبلوماسي الفرنسي التابع لوزارة أوروبا والشؤون الخارجية. وهي المذكرة التي جاءت دعما لطلب كانت قد وجهته مؤسسة أرشيف المغرب في الموضوع، لاسترجاع الوثائق الأصلية لمحمد بن عبد الكريم الخطابي التي بحوزتها، بعد استحواذ القوات الفرنسية عليها سنة 1926 عقب نهاية حرب الريف التي كان يقودها.
ويسجل لمؤسسة أرشيف المغرب ما اشتغلت عليه من اجل جمع الأرصدة الارشيفية الخاصة الوطنية خلال السنوات الأخيرة، ومن هنا ما حصلت عليه عبر تسليم شخصيات سياسية ودبلوماسية وفكرية وثقافية وهيئات مدنية مغربية لأرشيفها، ولعل آخر هذه الشخصيات المغربية القيادي البارز في حزب الاتحاد الاشتراكي الأسبق عبد الواحد الراضي في أفق ما ينبغي من مساهمة في حفظ تاريخ البلاد المشترك ونقله للأجيال الحالية والقادمة. وقبل هذا الأخير كانت هبة أسرة القيادي السياسي والوزير الأول الأسبق الراحل عبد الرحمن اليوسفي، لمؤسسة “أرشيف المغرب” قبل حوالي الثلاث سنوات، وقد اعتبر الحدث مثالاً ينبغي أن تقتدى بها شخصيات أخرى صوب ما تحتفظ به من أرشيفات رافعة لتاريخ وذاكرة المغرب الجماعية. وقبل الراضي واليوسفي أهدت شخصيات بارزة في السياسة والدبلوماسية والفكر والفن أيضاً أرشيفاتها الشخصية لـ”أرشيف المغرب”، من أجل الائتمان عليها وإطلاع الخلف من المغاربة على تاريخ أسلافهم حفظا لما هناك من هوية مشتركة.
هكذا صادق المغرب على قانون الأرشيف سنة 2007، وهكذا تم بإحداث مؤسسة أرشيف المغرب سنة 2011 كمؤسسة عمومية بأدوار جامعة بين حفظ الأرشيف وإغناءه ووضعه رهن إشارة الاستثمار العلمي، وبين حفظ هوية المغرب والمغاربة بعد ما عرفه ارشيفهم من إهمال لعقود فضلا عن ضياع ونهب وسلب، وبين أيضا ما ينبغي من ثقافة وسلوك وقيم واخلاقيات أرشيف في المجتمع. سياق يسجل فيه ما كان لهيئة الإنصاف والمصالحة من توصيات وفضل لفائدة قانون منظم للأرشيف ولفائدة إحداث مؤسسة رسمية مشرفة، من تطلعاتها منذ إحداثها توجيه كل وثائق قطاعات الدولة لهذه المؤسسة عملا وتفعيلا للقانون والنصوص المنظمة، مع توسيع وعاء مواردها البشرية واللوجيستية في أفق تمكن المؤسسة من استقبال ومعالجة وحفظ ما سيصلها من هنا وهناك الآن وغدا في أحسن الظروف، فضلا عن تحقيق مقر/ مبنى لأرشيف المغرب وفق المعتمد من معايير دولية. يبقى ختاما ويذكر أن المغرب كان يتوفر منذ مطلع عشرينات القرن الماضي زمن الحماية، على مصلحة رسمية لحفظ الوثائق والمستندات (الخزانة العامة بالرباط)، فضلا عن قسم وثائقي تم إحداثه بمدينة تطوان. وقد استمرت هذه المراكز الأرشيفية في الاشتغال حتى سنة ألف وتسعمائة وخمسة وخمسين، قبل قيام السلطات الفرنسية على حين غفلة بنقل جميع الوثائق التي كانت تحت سلطتها الى قاعدة سلا الجوية، حيث تم ترحيل كل شيء صوب فرنسا، علما أن العملية تمت في إطار من السرية والأيادي الخفية المساعدة. وكان ما حدث لأرشيف خزانة الرباط، نفسه الذي حصل وقام به الاسبان تجاه المحفوظ من أرشيف المغرب بخزانة تطوان.
*مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث
تعليقات الزوار ( 0 )