Share
  • Link copied

إشكالية تدبير الموارد البشرية في سياق النموذج التنموي الجديد

       يعتبر إصلاح الإدارة أحد الأوراش المركزية التي تندرج في صلب انشغال الحكومات المغربية منذ الاستقلال إلى يومنا هذا، وذلك لاعتبار هذا الإصلاح إصلاحا للدولة، وباعتبار الإدارة هي جهاز هذه الأخيرة لتخطيط وتنفيذ السياسات العمومية، وباعتبارها أيضا الذراع التنفيذي للدولة في بلورة وتحقيق المشروع التنموي. فلذلك لا يمكن أن يجادل أحد في الأهمية المركزية لإصلاح الإدارة وتحديثها، وإصلاح الأعطاب والاختلالات التي تعتريها، طلبا لتحقيق مجتمع الرفاهية والاستجابة لتطلعات المواطنين والمواطنات في كرامة العيش والتمتع بحقوقهم الاجتماعية والاقتصادية.

ويستمد الإصلاح الإداري راهنيته من النقاش العمومي الذي تعرفه الساحة الوطنية اليوم حول إعداد نموذج تنموي جديد، كان قد دعا إليه العاهل المغربي بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الثالثة من الولاية التشريعية العاشرة، بتاريخ 12 أكتوبر 2018 وكلف به لجنة استشارية برئاسة شكيب بن موسى عهد إليها ببلورة مشروع النموذج التنموي الجديد لبلادنا، بناء على مساهمات مختلف المؤسسات الوطنية المختصة في إطار منظور استراتيجي شامل ومندمج. هذا النموذج التنموي الذي، في تقديري، لا يمكن أن يتجاهل المركزية التي تحتلها الإدارة العمومية في أي نقاش عمومي حول التنمية، لأن هذه الأخيرة تفترض بشكل حتمي ضرورة إصلاح الإدارة وتأهيلها لتكون في مستوى التحديات التنموية المطروحة على إشكاليات التنمية ببلادنا. وذلك اعتبارا للأدوار الحيوية التي تضطلع بها الإدارة العمومية في تدبير المشاريع التنموية إعداد وتنفيذا وتقييما. فالنموذج التنموي الجديد الذي يجب أن يرتكز على ضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لكل المواطنين بشكل عادل ومنصف لن يجد طريقه للتفعيل بدون إدارة عمومية قوية بمواردها البشرية في شتى القطاعات من صحة وتعليم وقضاء وجماعات ترابية ومقاولات ومؤسسات عمومية، ويقتضي أيضا القطع مع المنطق التدبيري التقليدي المعيق للاجتهاد والابتكار.

 فضلا عن سياق الإعداد للنموذج التنموي يستمد كذلك سؤال الإصلاح مصداقيته من الرهانات الدستورية الملقاة على الإدارة العمومية في تنزيل الحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة وتحقيق الجودة في تقديم الخدمة العمومية، حيث أن المبادئ الدستورية المؤطرة للإدارة العمومية لم تجد بعد طريقها نحو التنزيل والتطبيق.

وأمام هذه التحديات والرهانات يطرح السؤال حول مدى الجدية في تنزيل الأوراش الإصلاحية والبرامج المطروحة في الأجندة الحكومية. فالساحة العمومية اليوم، بما تحقق من تراكم، تعرف تضخما على مستوى الخطاب وتباطؤ في التنزيل والممارسة. فالهوة باتت تتسع يوما بعد يوم بين مرجعية عمومية وطنية (الخطب الملكية، الدستور المغربي، البرنامج الحكومي، تقارير وتوصيات الهيئات الدستورية، تقارير المجلس الأعلى للحسابات…) تمتح من أحدث براديغمات التدبير (التدبير العمومي الجديد، التدبير التوقعي للموارد البشرية، التدبير المرتكز على النتائج…) وبين واقع لازال يرتبط بمرجعية غارقة في التقليدانية.

إن سؤال إصلاح الإدارة القديم / الجديد في بلادنا بات شبيها بالمرض المزمن الذي رضخنا للتعايش معه بدل البحث عن علاج نهائي له. بات يصوره لنا بعض المحافظين، ممن لهم مأرب أخرى، كقدر لا مناص من الخروج من متاهاته. حيث يمانعون ضد أي محاولات لتغيير الوضع القائم، وهذه العقليات تبقى العائق الأكبر لأي إرادة للإصلاح. وقد عبر عن ذلك الخطاب الملكي بكون إصلاح الإدارة يتطلب تغيير السلوكيات والعقليات، فقد كان الخطاب الملكي الخاص بافتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الأولى من الولاية التشريعية العاشرة ل 14 أكتوبر 2016، خطابا قويا يحمل دلالات معبرة عن المشاكل التي تعيشها الإدارة العمومية و خطابا يطرح العديد من التوجيهات و الحلول، حيث دعا جلالته إلى تغيير السلوكيات و العقليات، التي تعتبر حقيقة، أحد العوائق الي تقف حجرة عثرة أمام محاولات الإصلاح المتتالية، و إلا كيف يمكن أن نفسر هذه الهوة الواسعة بين نصوص قانونية وخطابات رسمية جد متقدمة في مجال التدبير العمومي و حكامة الإدارة العمومية وبين واقع الإدارة العمومية بالمغرب الذي لازالت تخترقه العقليات التقليدية . كما دعىا الخطاب الملكي إلى إعطاء العناية الخاصة لتكوين وتأهيل الموظفين، وتمكينهم من فضاء ملائم، مع استعمال آليات التحفيز والمحاسبة[1].

ولذلك فالسؤال الحقيقي، في نظرنا، هو كيف يمكن تنزيل الزخم الكبير من الأوراش الإصلاحية )المراجعة الشاملة لقانون الوظيفة العمومية، مشروع ميثاق المرافق العمومية الذي صادق عليه البرلمان، ميثاق اللاتمركز الإداري  الذي هو قيد التنفيذ، التصورات الحكومية المتعلقة بتثمين الموارد البشرية المدرجة في تصريحات البرنامج الحكومي…) أمام مقاومة وممانعة العقلية المحافظة التي تريد إبقاء دار لقمان على حالها لضمان استمرار امتيازاتها؟ وماهي الأليات الكفيلة بجسر الهوة بين الخطاب الإصلاحي الذي تتبناه الدولة والواقع المستعصي على التغيير؟

 ويعتبر إصلاح منظومة تدبير الموارد البشرية، الذي سنقتصر على تناوله في هذه الورقة، مدخلا أساسيا للإصلاح االإداري وتعبيرا جليا للمفارقات التي تعيشها الإدارة العمومية بين الرغبة في الإصلاح والتحديث وواقعها القائم على الزبونية والمحسوبية وعلى منطق الولاءات. لذلك سنقتصر على تناول إشكالية تدبير الموارد البشرية لنبين البون الشاسع بين ماهو كائن وما يجب ان يكون. ونحاول، هنا، مقاربة هذه الإشكالية من خلال مطلبين إثنين، نعرض من خلالهما بشكل مركز لبعض الاختلالات المرتبطة بموضوعنا ( المطلب الأول) ثم نقترح مدخلين أساسين لتجاوز العوائق التي تحول دون تنزيل الأدوات الحديثة في مجال تدبير الموارد البشرية الحديثة التي تتبناها الدولة في سياستها الإصلاحية ( المطلب الثاني).

المطلب الأول: واقع تدبير الموارد البشرية: هدر للكفاءات

لا يجادل اثنان في واقع التدبير التقليدي للموارد البشرية داخل الإدارات العمومية ومأساة الأطر والكفاءات التي تعاني من التهميش والاستبعاد من ممارسة المهام والمسؤوليات التي تستوجبها النصوص القانونية والتنظيمية وتستلزمها مهام النهوض والرقي بالإدارة العمومية وتعزيز حكامتها. وذلك تماشيا مع المرجعية الوطنية التي تتوخى النهوض بالتنمية والاستثمار في الرأسمال البشري وتنزيل المرتكزات الدستورية المتعلقة بالحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة ومبادئ الاستحقاق والكفاءة.

فلقد ظل نظام تدبير الموارد البشرية يشكل، أحد أهم الاختلالات التي تعاني منه الإدارة العمومية ببلادنا والذي ينعكس على جودة الخدمات المقدمة وعلى أداء الإدارة العمومية ومساهمتها في تحقيق نجاعة السياسات العمومية والتنمية المستدامة. فهو لا يستجيب للتطلعات والطموحات المنتظرة من الإدارة العمومية لمواكبة التحولات والتطورات الكبرى التي تعرفها الدولة والمجتمع في وقتنا الحاضر. حيث لازال تدبير الموارد البشرية يعتمد آليات تقليدية ومتجاوزة والتي تقتصر فقط على تدبير الجوانب القانونية والموازناتية والتسيير الإداري اليومي، في غياب مناهج التدبير الحديثة التي ترقى بالموارد البشرية إلى مفهوم الرأسمال البشري، باعتباره يشكل رافعة أساسية لتحديث الإدارة العمومية، وبالتالي تأهيلها للمساهمة في تحقيق التنمية الشاملة المرجوة. فالتدبير الحالي للموارد البشرية يسجل قصورا وتقادما، لا من الناحية القانونية الشكلية ولا من الناحية التدبيرية، خصوصا مع ما عرفه المغرب في العقد الأخير من إصلاحات دستورية ومن إرادة سياسية عليا لبناء نموذج تنموي جديد قادر على تحقيق رفاهية المجتمع.

     ومن أهم الاختلالات القانونية في تدبير الموارد البشرية في المغرب التي، أصبحت حقيقة تؤرق الجميع، هو تقادم النص القانوني المنظم للوظيفة العمومية، أي النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية لسنة 1958 و الذي تم إعداده غداة الاستقلال و تم اقتباسه من النموذج الفرنسي الصادر في 19 أكتوبر 1946، وهي فترة تزامنت مع إشعاع النموذج البيروقراطي الذي استخلص منه مبادئ العمل[2] فرغم التعديلات التي عرفها هذا النص، و التي وصلت إلى حدود اليوم إلى سبعة عشر تعديلا، يبقى النظام الأساسي للوظيفة العمومية غير قادر على مواكبة التحديات التي تواجهها الإدارة على مستوى التوظيف و الترقية و التكوين و تقييم الأداء  و الاستحقاق و كذا في ما يتعلق بالأخلاقيات و النزاهة .

      كما يقتصر تدبير الموارد البشرية في المغرب على تدبير تقليدي  للأعداد و الكفاءات حيث يخضع هذا التدبير لمنطق مرتكز على الشكلية القانونية والكمية و يستبعد التدبير التوقعي الذي يساهم في الاستثمار الأمثل للموظفين، مما ينتج عنه هدر للكفاءات من الموارد البشرية و عدم وضعها في المكان المناسب الذي يجب أن تشغله، فالتكوين الأساسي للموظف لا يِؤخذ بعين الاعتبار في إسناد المناصب داخل الإدارة العمومية، و عملية التوظيف و إسناد مناصب المسؤولية لا تتم وفق دليل يوضح حاجيات الإدارة من المواصفات المطلوبة في الموارد البشرية، مما يفتح المجال للمحسوبية والزبونية. فرغم أن منشور الوزير الأول المتعلق بإعداد الدلائل المرجعية للوظائف والكفاءات رقم 2004/08 قد عرف النور منذ سنة 2004، إلا أن هذه الدلائل لم يتم العمل بها الى اليوم بسبب عدم إلزاميتها قانونيا وبسبب الثقافة التقليدية التي لاتزال سائدة في الذهنيات داخل الإدارة العمومية. وتجدر الإشارة إلى الأهمية المستعجلة لتطبيق هذه الدلائل التي سوف تقطع الطريق أمام نظام الولاءات والمحسوبية الذي يعتري إسناد المهام ومناصب المسؤولية، حيث يقدم المقربون والأقارب ومن هم أدنى كفاءة وخبرة وذلك في مقابل تهميش الكفاءات التي تحمل مشاريع وتصورات في التدبير وتجويد الخدمة العمومية. فوجود دلائل ملزمة تحدد بشكل دقيق المواصفات المطلوبة لممارسة وظيفة معينة أو شغل مسؤولية معينة كفيل بالقضاء على التلاعب بإسناد المناصب والمهام.

كما يخضع إسناد مناصب المسؤولية لمرسوم[3] متناقض تماما مع ما تقتضيه حكامة التدبير وفعاليته حيث يرتب هذا النص التنظيمي معايير بعيدة عن منطق الكفاءة والاستحقاق وإسناد المسؤولية على أساس المواصفات والشروط الدقيقة اللازمة لشغل منصب المسؤولية، فهو ينص على الدرجة والأقدمية معيار وحيد لإسناد مناصب المسؤولية بغض النظر عن طبيعتها وعن المؤهلات التي يجب توفرها في الشخص الذي سوف يشغرها. وفي ظل هذه العمومية والضبابية في المعايير يتعزز منطق الولاء والمحسوبية وتغيب الشفافية ومبدأ الاستحقاق. فرئيس الإدارة واللجنة التي يتم تشكلها لإجراء مقابلات الانتقاء قد تصبح مجرد إجراء شكلي قانوني يخفي الفساد والاختلالات التي تشوب هذه العملية.

          إن هذه الاختلالات التي قمنا بالإشارة إلى أهمها، ليست وليدة اللحظة، ولكن تم رصدها والحديث عنها منذ الخطاب الإصلاحي الذي ابتدأ في الثمانينيات، من القرن الماضي   ولازال التشخيص الذي نقوم به اليوم هو نفسه ولم يتغير، منذ البدايات الأولى لخطابات الإصلاح ببلادنا، فالمناظرة الوطنية حول المراجعة الشاملة للنظام الأساسي للوظيفة العمومية التي أقيمت في 21 يونيو 2013[4] لم تخرج في تشخيصها، فيما ما يتعلق بتدبير الموارد البشرية، عما تم رصده من قبل من نواقص وعلل. فالتشخيص الذي نقوم به اليوم لواقع الإدارة العمومية المغربية لا يكاد يختلف عما تم رصده منذ ما يقرب من أربعة عقود من الزمن، فلماذا إذن لم يستطع الفاعل العمومي تجاوز كل هذه الأعطاب؟ ولماذا فشلت سياسات إصلاح الإدارة المغربية؟ 

 إن واقع الإدارة العمومية يثير العديد من المشاكل العامة التي أصبحت تستدعي وبشكل مستعجل التدخل العمومي، سيما ونحن بصدد إعداد نموذج تنموي جديد ببلادنا، من أجل إيجاد حلول لها ومن أجل الاستجابة لحاجيات المجتمع المشروعة.إن هذه الاختلالات، ذات الطبيعة القانونية والتدبيرية والسلوكية، تقتل روح الاجتهاد والإبداع في الطاقات التي تزخر بها الإدارة العمومية المغربية وتفوت على بلادنا الفرص في ربح رهان التنمية. غير أن الإشكال في نظرنا لا يتعلق بوجود قوانين ونصوص تنظيمية وإرادة سياسية وحكومية بقدر ما يتعلق بتنزيل وتطبيق النصوص والبرامج الحكومية في مجال إصلاح الإدارة وذلك كما أسلفنا، بسبب عقلية الولاءات ونظام المحسوبية ومنطق التدبير التقليدي الذي لايزال يجثم على الإدارات العمومية.

المطلب الثاني: أليات النهوض بإصلاح منظومة الموارد البشرية

لتجاوز هذه الهوة بين إرادة الدولة، الطامحة إلى النهوض بالموارد البشرية وتدبيرها وفق النماذج الحديثة، وواقع الممارسة الذي يتمنع ضد الاستثمار الأمثل للرأسمال البشري يجب فرض إلزامية استعمال الدلائل المرجعية للكفاءات عبر نص قانوني (أولا) ومراقبة الحكامة الجيدة في تدبير الموارد البشرية داخل الإدارات العمومية (ثانيا).

أولا: التنصيص على إلزامية تطبيق الدلائل المرجعية للكفاءات والأعداد

      إن تأهيل الرأسمال البشري يعتبر محورا مركزيا في عملية إصلاح الإدارة العمومية، فهو ركيزة أساسية بالنسبة لكل دينامية للتغيير والتحديث. لكنه و رغم العديد من الإجراءات و المبادرات الحكومية في السنوات الأخيرة و التي حملت العديد من المستجدات المتعلقة بتدبير الموارد البشرية بهدف نشر ثقافة جديدة لتدبير تلك الموارد ترتكز على الاستحقاق والكفاءة و حسن الأداء، و تحسين مردودية الوظيفة العمومية و التحكم في كتلة الأجور، فإن تدبير الموارد البشرية يجب أن ينتقل من التدبير التقليدي إلى التدبير المؤسس على المناهج الجديدة للتدبير التوقعي للموارد البشرية المرتكز على الدلائل المرجعية للأعداد والكفاءات. حيث تعتبر هذه الأخيرة وثيقة معيارية تحدد وتصنف فيها الوظائف والمهام والمواصفات المطلوبة لشغلها وذلك بهدف استقطاب الموارد البشرية الكفؤة ووضعها في مكانها المناسب ضمانا للاستثمار الأمثل للطاقات والأطر التي تتوفر عليها الإدارة أو التي سيتم توظيفها.

 لذا وجب على الحكومة التسريع بإخراج هذا التوجه في أقرب الآجال واعتماده في استثمار الرأسمال البشري، لما لذلك من دور أساسي ومحوري في إصلاح الإدارة العمومية وعقلنة القرارات المتعلقة بالتوظيف والتكوين والترقية واستثمار الكفاءات التي تتوفر عليها الإدارات العمومية والتي عادة ما لا توضع في مكانها المناسب.

      بالإضافة إلى ذلك، يبدو أنه أن الأوان لمراجعة شاملة للنظام الأساسي للوظيفة العمومية الذي أصبح نصا قانونيا متقادما وغير قادر على مسايرة المستجدات وعلى مواكبة المبادئ التي يقوم عليها التدبير العمومي الجديد ولا التدبير الحديث للموارد البشرية. فوجود نص قانوني جديد بمثابة نظام أساسي للوظيفة العمومية يتضمن اعتماد التدبير الحديث للوضعيات والمسارات المهنية واعتماد دلائل مرجعية للكفاءات والأعداد سوف يعطي لهذه الأخيرة القوة القانونية الإلزامية وسيمكن من تنزيلها على أرض الواقع. وينص تقرير المجلس الأعلى للحسابات حول نظام الوظيفة العمومية سنة 2017 في هذا الإطار على ” إن النفقات المرتبطة بمشاريع التدبير التوقعي تظل دون جدوى بالنظر لعدم استغلال الدلائل المرجعية للوظائف والكفاءات، كما أن التغيرات التي تشهدها الإدارات تتطلب تحيين هذه الدلائل لكي تأخذ بعين الاعتبار التطورات التي تعرفها مهام وتنظيم كل إدارة. وتصطدم أجرأة التدبير التوقعي للوظائف والكفاءات بالعديد من الإكراهات المرتبطة بالنظام الأساسي العام للوظيفة العمومية، ولا سيما فيما يتعلق بغياب الملاءمة بين الوظيفة والدرجة، وكذا تعقيدات نظام الأجور. وبالإضافة إلى ذلك، يشكل تعدد الأنظمة والأطر عائقا يحول دون تنزيل التدبير التوقعي والذي يساعد على المرونة في التدبير.”[5]

ثانياتعزيز الرقابة على حكامة التدبير

تعتبر الرقابة ألية أساسية من أليات الحكامة الجيدة ومكونا أساسيا من مكونات التدبير الحديث، لكن منظومة الرقابة بالإدارة العمومية تقتصر بشكل كبير على الرقابة التراتبية والرقابة القانونية الشكلية وتفتقد إلى الرقابة التي تستهدف التدبير وحكامته. مما يترك المجال للتحايل على النصوص القانونية والتنظيمية وعلى أشكال الرقابة الشكلية. فإذا كان صحيحا وجود هيئات تمارس هذا النوع من الرقابة الحديثة كالمجلس الأعلى للحسابات والمجالس الجهوية للحسابات والمفتشية العامة لوزارة المالية والمفتشية العامة لوزارة الداخلية فإن أداءها يبقى جد محدود وليس له الأثر الكبير في تحقيق الرقابة على التدبير وعلى تطبيق مبادئ الحكامة الجيدة داخل الإدارات العمومية، وذلك راجع لعدة أسباب ليس المجال لذكرها هنا.

فتوطين الحكامة الجيدة داخل الإدارة العمومية والنهوض بالرأسمال البشري باعتماد أليات التدبير التوقعي يقتضي وجود رقابة فعالة وقريبة تحرص على الاستثمار الأمثل للموارد البشرية والتصدي للزبونية والمحسوبية في تدبير مختلف الوضعيات المهنية والإدارية للموارد البشرية بشكل يضمن تطبيق مبادئ الاستحقاق والكفاءة ووضع الأطر المناسبة في المكان المناسب وتنظيم الهيكلة الإدارية وتوضيح المهام والمسؤوليات. وهذا من شأنه أن يواجه التلاعبات والسلوكات الفاسدة التي تمارس تحت غطاء الرقابة الشكلية والنصوص التنظيمية المتقادمة والمتناقضة مع الرهان الوطني والدستوري القائم على المواطنة والديموقراطية والحكامة الجيدة و النزاهة و مبادئ الاستحقاق و الكفاءة.

إن الرقابة الشكلية، في حقيقة الأمر، تعتبر عائقا للتدبير الجيد، فمن خلالها تعطى الشرعية للسلوكيات اللاأخلاقية وتوفر الغطاء القانوني للعقليات المحافظة الرافضة للتغيير. ويمارس هذا النوع من الرقابة بشكل أساسي وزارة المالية من خلال الخزينة العامة للمملكة التي تعتبر أهم جهة تراقب العمليات المالية للإدارات العمومية ، وما يهم المحاسب العمومي الممارس لمهام الرقابة المالية، في هذا الإطار، هو وجود وثائق تبرر النفقة بالإضافة إلى احترام النصوص القانونية والتنظيمية[6] ولا يمكن أن يتدخل، بمقتضى اختصاصاته، في كيفية صرف النفقة ولا في حكامة التدبير من عدمه. ونفس الأمر يسري على الإدارات التابعة للمؤسسات والمقاولات العمومية حيث تقتصر رقابة مراقب الدولة والمحاسب العمومي المعتمد لديها في احترام الإجراءات القانونية والتنظيمية والشكلية[7].

إن رقابة التسيير والافتحاص والرقابة على حسن التدبير تقتصر فقط على المجلس الأعلى للحسابات والمفتشية العامة للمالية والمفتشية العامة لوزارة الداخلية ولكنها نظرا لضعف إمكاناتها البشرية تعجز عن تتبع واقع التدبير بشكل عام وتدبير الموارد البشرية بشكل دوري وقريب. كما أنها حتى مع قيامها بمهمات رقابة التسيير الافتحاص لا ترتب نتائج عملية تنعكس على الواقع فالعديد من تقارير المجلس الأعلى للحسابات مثلا تبقى حبرا على ورق ولا تلزم الإدارات العمومية.

وغياب أو ضعف الرقابة على الحكامة الجيدة تدبر العديد من المهام، التي لها أثر مهم على ما هو اجتماعي واقتصادي ومالي، من طرف أعوان تفتقد للكفاءة وللتكوين المطلوب رغم توفر الإدارة على الكفاءات المطلوبة والتي تجدها في الكثير من الأحيان تمارس مهام لا تتناسب، تماما، مع كفاءتهم ولا مع هيئاتهم المهنية، لا لسبب سوى كون بعض الوحدات الإدارية تم السيطرة عليها من طرف بعض المتلاعبين بالمال العام وسماسرة الصفقات العمومية والمفتقدين لثقافة المرفق العام وأخلاقه القائمة على النزاهة والمصلحة العامة التي نص عليها الدستورالمغربي[8].

ومن هذا المنظور يجب تعزيز وتقوية الرقابة على الحكامة الجيدة في تدبير الموارد البشرية في كل المسارات الوظيفية والوضعيات المهنية، وخصوصا في ربط المهام والمسؤوليات بمواصفات دقيقة ومحددة وفقا لدليل مرجعي. ويجب ألا يقتصر هذا النوع من الرقابة على المجلس الأعلى للحسابات والمفتشية العامة لوزارة المالية، التي يجب تعزيز مواردها البشرية والمادية لتقوم بدورها كاملا ولتستطيع تغطية كل الإدارات العمومية على المستوى الترابي للمملكة، بل يجب على الخزينة العامة للمملكة وكل المحاسبين العموميين، بالإضافة إلى الرقابة القانونية والشكلية، أن تسند لهم مهام رقابة التسيير والرقابة على الحكامة الجيدة في التدبير الإداري والمالي بشكل عام وتدبير الموارد البشرية بشكل خاص. فلا يعقل أن يكون لدينا نصوصا قانونية وأوراش إصلاحية كبرى في المجال الإداري والإدارات العمومية لازالت تسير بمنطق المقاولة العائلية التقليدية.

إن رهان إعداد نموذج تنموي جديد لبلادنا يشكل فرصة حقيقية لاتخاذ الإجراءات المستعجلة للنهوض بتدبير الموارد البشرية باعتماد المقاربات الحديثة القادرة على تثمين الرأسمال البشري واستثماره بالشكل الأمثل، والقطع بالتالي مع الممارسات الغير النزيهة التي تعمل على تهميش وإقصاء الكفاءات والأطر من ممارسة دورها في تقديم خدمة عمومية ذات جودة من خلال الابتكار والاجتهاد. كما أن اعتماد أليات التدبير التوقعي وأدوات الحكامة الجيدة وتعزيز الرقابة على حكامة التدبير يعتبر مدخلا لا محيد عنه لتحديث الإدارة العمومية وتخليقها وضمان نجاعتها.

*خريج المدرسة الوطنية للإدارة وباحث في سلك الدكتوراه قانون عام


[1]  نص الخطاب السامي الذي ألقاه جلالة الملك في افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الأولى من الولاية التشريعية العاشرة.

[2] Aman Abdelmajid : la formation intégrée, méthode de gestion des compétences : expérimentation dans les administrations publiques marocaines-Université Lyon- Thèse de Doctorat- 2001-p 146.

[3]  مرسوم رقم 681-11-2 صادر في 28 ذي الحجة 1432 ( 25 نوفمبر 2011) في شأن كيفيات تعيين رؤساء الأقسام ورؤساء المصالح بالإدارات العمومية.

[4]   انظر موقع وزارة الاقتصاد والمالية وإصلاح الإدارة.

[5]  تقرير المجلس الأعلى للحسابات حول نظام الوظيفة العمومية – خلاصة-، 2017، موقع المجلس الأعلى للحسابات.

[6]  وذلك حسب المرسوم رقم 1235 -2-07 صادر في 5 ذي القعدة 1429/ 4 نوفمبر 2008 المتعلق بمراقبة نفقات الدولة.

[7]  وذلك وفقا للقانون رقم 69-00 المتعلق بالمراقبة المالية للدولة على مستوى المنشآت العمومية وهيئات أخرى، الصادر بموجب الظهير رقم 1-03-195 في 16 رمضان 1424 (11 نونبر 2003).

[8]  الفصل 155 من الدستور المغربي.

Share
  • Link copied
المقال التالي