Share
  • Link copied

أنقرة وموسكو في ميزان التوترات الجيوسياسية وتضارب المصالح

معركة إدلب تعكس تباينا ملحوظا في كيفية إدارة الأزمة بين روسيا وتركيا، في الوقت الذي تُطلق فيه عملية عسكرية غير محدودة للقضاء على الجماعات المسلحة بإصرار روسي هذه المرة بعد تقديرها، أن أنقرة لم تعمل على إنهاء وجود الفصائل المتشددة، وأبقت الأوضاع على حالها، ولم تلتزم بمخرجات اتفاق سوتشي.

والحملة العسكرية التي يشنها الجيش السوري بدعم جوي روسي تنقل رسائل مفادها نفاد صبر موسكو واستياؤها من المناورة التركية حيال الأمر، ومواصلة دعمها الأطراف المسلحة عوض تسهيل خروجهم، والعمل على إدارة الموقف بأسلوب سياسي دبلوماسي، يُبعد خيار الحرب والمواجهة الحاسمة.

وهذا التأجيل الذي يُفهم منه عدم رغبة تركيا في تقليص خياراتها على الجغرافيا السورية، أوصل الأمور إلى التطورات الميدانية الأخيرة التي تؤثر بشكل كبير في التفاهمات البينية بين البلدين.

ورغم التقديرات التي تعتبر ذلك مؤشرا على بداية مواجهة محتملة بين موسكو وأنقرة، في سياق التصعيد العسكري لكل الأطراف، وتنامي التهديد والوعيد، والانفلات الجزئي للأوضاع، وتصريحات أردوغان بشأن القرم، أثناء زيارته لأوكرانيا، فإن خيار الاحتواء يبقى الأقرب، وستتم إدارة الملف بطريقة مرنة تستوعب الخلافات التي يدرك الطرفان أنها لا تخدم كليهما، بالنظر إلى التوازنات الدولية، وتوتر علاقات كل منهما مع واشنطن.

زيادة على أن عدم نجاح الخيار السياسي في محطة إدلب السورية، سيؤثر في عسر التقارب في الميدان الليبي، الذي يعتبر عنوانا آخر للنفوذ التركي الروسي. وليس في ميزان حسابات روسيا أن تجعل الأمور تتطور عسكريا في محافظة إدلب، وتصل إلى مواجهة تركية سورية مباشرة، فمعركة بهذا الحجم تضعها في إحراج كبير على جميع الأصعدة، وقد تجرها إلى مستنقع عسكري بواقعية الإكراه، في لحظة تقلص الخيارات، وانحسار هامش المناورة، لذلك يُرجح أن يتم تجاوز الخلاف الروسي التركي، وتقليص حدة الاتهام المتبادل، بالتقاعس عن الوفاء بالالتزامات، والأغلب أن تؤجل روسيا موعد اقتحام المحافظة، والتدرج في مرحلة الحسم العسكري، لآخر جيوب المقاتلين.

وربما يتم إبرام صفقة تسهل خروجهم من المدينة، وتجنيب المدنيين ويلات الحرب، ولكن انتقالهم لن يكون هذه المرة إلى منطقة سورية أخرى، بل خارج الجغرافيا السورية. وليس مستبعدا أن يحدث تقارب عبر إعادة تفعيل عملية درع الفرات أو نبع السلام، أو نسخة ثانية معدلة من اتفاق أضنة بوساطة إيرانية، تمر عبر تفاهمات ما بعد إدلب، وتشمل مناطق شرق الفرات وكفر حلب وغيرهما.

يحدث ذلك في الوقت الذي تشكل فيه مدينة سراقب، التي استعادها الجيش النظامي السوري، نقطة التقاء بين طريقين دوليين يربطان محافظات عدة.

وتأتي السيطرة على مناطق واسعة من هذه المدينة، ضمن محافظة إدلب بعد معارك عنيفة ضد الفصائل المقاتلة، تحديا صريحا لتحذيرات أنقرة التي تواصل إرسال تعزيزات عسكرية إلى المنطقة، وتدعو دمشق لسحب قواتها من محيط نقاط المراقبة للجيش التركي. ومع تقدم العملية العسكرية، واحتدام المعارك في ريفي إدلب الجنوبي الشرقي وحلب الغربي، تتوقع تركيا من روسيا أن توقف تقدم القوات السورية في أسرع وقت ممكن، كما جاء على لسان وزير خارجيتها مولود جاويش أوغلو.

ويُفهم من ذلك عدم رغبة أنقرة في اصطدام عسكري مباشر مع دمشق، وهي تراهن بدورها على التزام موسكو بما جاء في اتفاق سبتمبر 2018، الذي يشمل محافظة إدلب ومحيطها. ولهذا اعتبر الجانب التركي «الاستيلاء» على سراقب انتهاكا صريحا لاتفاقات سوتشي وأستانة، التي أبرمتها إلى جانب روسيا وإيران، لتحجيم القتال في الشمال السوري.

لا تجد تركيا تبريرا لتواجدها العسكري على أرض عربية وانتهاكها لسيادة سوريا، سوى قلقها من الوضع الإنساني، وإمكان تعرض حياة المدنيين للخطر. وتتكتم إلى الآن على حقيقة مشاركتها في المعارك، أو دعمها العسكري للفصائل المتمردة، وأبرزها هيئة تحرير الشام «جبهة النصرة» سابقا المصنفة تنظيما إرهابيا، إلى جانب فصائل مقاتلة أخرى أقل نفوذا. ولكن التطورات الأخيرة، ومقتل جنود أتراك إثر قصف سوري، وتهديد أنقرة بالرد، ومن ثم شروعها فيه، يجعل قواعد الاشتباك أكثر وضوحا وقد يعجل بفتحها على جميع الاحتمالات.

وهي سياقات تبرر العمل الدبلوماسي الحثيث، الذي يجري بين موسكو وأنقرة، وإجراء المحادثات للحد من التوتر، وتجنب التصعيد، وبحث خطوات الدفع بعملية سياسية في إدلب بشروط محدثة. ووصفت المحادثات بأنها إيجابية، في وقت مازال يتكشف فيه الخلاف وتضارب المصالح بين الجانبين، ورغم ذلك قد تعلن المناقشة المستمرة عن وقف لإطلاق النار، والانتقال إلى مرحلة جدية من التفاهمات حول مستقبل الحل السياسي في عموم سوريا.

الاضطرابات الجيوسياسية في الشرق الأوسط، لن تعقد المعادلات السياسية والعسكرية، أو تؤدي إلى نقطة اللاعودة في العلاقات الروسية التركية، فأنقرة تضع الورقة الاقتصادية في الحسبان، وهي تدرك أن حيوية الاقتصاد التركي مرتبط جوهريا بالشراكة مع موسكو، والعلاقات التجارية تتعزز في كل المجالات، وبالتالي لن تُترك الأمور رهينة التقلبات الجزئية، وما يبدو من تضارب مصالح لا يعدو كونه مجرد أوراق ضغط لتعزيز مواقع سياسية تفاوضية وكسب نقاط استراتيجية.

*كاتب تونسي

Share
  • Link copied
المقال التالي