بعد الهجوم الذي شنته القوات الأرمينية على مواقع أذربيجانية في بحر شهر يوليوز الماضي، عادت أزمة كاراباخ إلى واجهة الأحداث الدولية من جديد، بعد هدوء حَذِر دام قرابة أربعة أعوام عقب حرب الأيام الأربعة التي دارت رحاها في أبريل 2016.
واعتبر الدكتور أحمد نورالدين، الباحث في القضايا الدولية، أن الصراع بين أرمينيا وأذربيجان قد تفجر في هذه المنطقة من القوقاز الجنوبي خلال شهر دجنبر امنعام 1991 عندما أعلن إقليم كاراباخ انفصاله عن جمهورية أذربيجان بدعم من أرمينيا.
وأوضح الأكاديمي المغربي، خلال ندوة بعنوان “أذربيجان في مواجهة العدوان الأرميني 28 سنة من المعاناة الإنسانية” حضرها سفير أذربيجان بالمغرب واحتضنتها مؤسسة الإسيسكو بالرباط، أن المواجهات التي اندلعت في مايو 1992 أدت إلى احتلال أجزاء أخرى من أذربيجان، منها ممرّ لاتشين الذي يُعتبر حلقة الوصل الوحيدة بين كاراباخ وأرمينيا.
وفي أكتوبر 1993 ، يضيف الباحث المغربي، توسعت رقعة الأراضي التي احتلتها أرمينيا بعد تدخل جيشها بشكل مباشر لتصل إلى نحو 20% من مساحة أذربيجان، وهو الوضع الذي ظل قائماً رغم التوقيع على اتفاق هشّ لوقف إطلاق النار في مايو 1994.
وأفاد الباحث أحمد نورالدين إلى أن هذه الحرب خلفت أزيد من 30 ألف قتيل وما يفوق 1.5 مليون مواطن مهجَّر، أغلبهم أذربيجانيون فرّوا من التطهير العرقي الذي مارسته القوات الأرمينية في المناطق التي احتلتها. ورغم أن منظمة التعاون والأمن الأوروبي (OCSE) أَنشأت ما سُمّي مجموعة “مينسك” للإشراف على المفاوضات بين أرمينيا وأذربيجان، فإنّها لم تتمكّن من تحقيق أي تقدم في المسار الدّبلوماسي، وذلك لأسباب تتداخل فيها عوامل الهوية والدين والتاريخ بحسابات جيوسياسية وأخرى اقتصادية تهم القوى الإقليمية والدولية، ممَّا يبقي الصراع مفتوحاً على كل السيناريوهات.
وفي سياق تحليله لأبعاد الصراع بين أذربيجان وروسيا، اعتبر الباحث المغربي أن روسيا تعتبر أرمينيا ورقة مهمة في الصراع الدائر بين موسكو من جهة والدول الأوروبية وتركيا من جهة ثانية، وذلك للتحكم في أنابيب النفط والغاز القادمة من بحر قزوين، والتي تتقاطع خطوطها في هذه المنطقة الحساسة. وتزايدت أهمية أرمينيا لموسكو بعد الحرب الخاطفة لهذه الأخيرة ضدّ جورجيا سنة 2008 دعماً للانفصاليين في إقليمَي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، اللّذَين أصبحا بعد ذلك جمهوريتين تعترف بهما روسيا.
وفي هذا الصدد أشار الخبير في العلاقات الدولية إلى أنّ أرمينيا جددت سنة 2010 اتفاقية أمنية وعسكرية مع روسيا تسمح لهذه الأخيرة بالحفاظ على قاعدة “ﮔومري” العسكرية على الحدود التركية حتى عام 2044، وفي المقابل وقّعت أذربيجان في نفس السنة شراكة استراتيجية مع تركيا، علماً بأنّ أنقرة ما زالت تُعتبر ضامناً لسيادة أذربيجان على منطقة ناخيتشفان ذات الحكم الذاتي المجاورة لإقليم كاراباخ، وذلك بموجب اتفاق كارس الموقع عام 1921 بين تركيا والاتحاد السوفييتي آنذاك، فضلاً عن الخلافات الجارية حالياً بين موسكو وأنقرة في سوريا وليبيا.
وبالعودة إلى التاريخ، يقول الدكتور أحمد نورالدين :”نجد أنّ القبائل التركمانية القادمة من آسيا الوسطى في القرن الحادي عشر للميلاد هي التي أطلقت اسم كاراباخ على المنطقة الواقعة بين نهر كورا ونهر آراكس. ومنذ ذلك التاريخ إلى غاية القرن الثامن عشر ظل إقليم كاراباخ خاضعاً على التوالي لنفوذ الإمبراطورية السلجوقية (أتراك) والإمبراطورية الصفوية، فارس قديماً أي أذربيجان وإيران حالياً”.
وهذا ما ينفي، حسب الباحث المغربي، أي علاقة لأرمينيا الأرثوذكسية بهذا لإقليم الذي ظل إمارة مسلمة تحت اسم كاراباخ خانة، إلى أن دبّ الضعف في أوصال الإمبراطورية الصفوية، واضطرت تحت ضغط الحملات العسكرية لروسيا القيصرية إلى التنازل عن الإقليم بموجب اتفاقية “ﮔولستان” سنة 1813، ثمّ تبعتها اتفاقية ثانية سنة 1828 أرغمت الصفويين ليس على التنازل للروس عن أقاليم أخرى فحسب، وإنما أجبرتهم على السّماح للأقلية الأرمينية بالهجرة إلى الأراضي التابعة لروسيا ومنها “كاراباخ” و”يِريفان” والقوقاز الجنوبي بصفة عامة.
وأوضح الباحث المغربي أن سياسة تغيير البنية الديمغرافية للأقاليم من الأسلحة المستخدمة في تلك الحقبة لإخماد الثورات المطالبة بالاستقلال، وهكذا لجأت روسيا إلى هذا الإجراء مع سكان شبه جزيرة القِرم التي كانت تابعة للإمبراطورية العثمانية، وقامت بترحيل أغلبية سكانها الأصليين إلى مناطق أخرى، وكذلك فعلت القوى الاستعمارية الأوروبية ومنها بريطانيا مثلاً التي هجرت الصينيين إلى ماليزيا، والهنود إلى جنوب إفريقيا وغيرهما.
وأضاف الباحث المغربي بالقول: “لعلّ هذا الاستيطان في القرن التاسع عشر بقرار فوقي من القيصر الروسي هو ما يُفسّر التفوّق العددي للأرمَن في كاراباخ العليا على حساب الأذربيجانيين، حيث تُفيد الإحصائيات أن نحو 50 ألف أرميني غادروا الإمبراطورية الصّفوية نحو الأراضي الخاضعة لروسيا القيصرية، وهو رقم كبير بالنسبة إلى ذلك التاريخ إذا عرفنا أنّ عدد سكان كاراباخ حالياً لايتجاوز 200 ألف نسمة”.
وأشار الدكتور أحمد نورالدين إلى أنه بعد قيام الثورة البلشفية وانهيار روسيا القيصرية، أعلنت أذربيجان استقلالها سنة 1918 على كامل أراضيها بما فيها كاراباخ، وبعد انضمامها إلى الاتحاد السوفييتي ظلّ الإقليم خاضعاً لسيادتها رغم تمتعه بالحكم الذاتي. ولم يكن أبداً موضوعُ الهوية العرقية أو الانتماء الديني عائقاً للتعايش السّلمي بين الأرمن والأذريين داخل أذربيجان، وأكبر شاهد على ذلك هو وجود نحو 300 ألف أرميني في باكو عاصمة أذربيجان عند انفجار الصراع في كاراباخ سنة 1991. وهذا ما يؤكد أنّ الدين والقومية بريئان من أغلب الصراعات الدولية، وغالباً ما يتم توظيفهما من القوى الخارجية كأسلحة دمار شامل لتبرير تدخلها وتحقيق مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية.
وختم الباحث مداخلته بالقول: “بغضّ النظر عمّا ستؤول إليه الأوضاع في هذا النزاع بالنظر إلى جذوره التاريخية وتعقيداته الجيوسياسية، فإنّ موقف أذربيجان يبقى الأقوى من وجهة نظر القانون الدولي، وهذا ما تؤيده القرارات الأربعة المتوالية التي أصدرها مجلس الأمن الدولي سنة 1993، والتي تؤكد وحدة أراضي أذربيجان وتطالب أرمينيا بإخلاء الأراضي التي تحتلها”.
تعليقات الزوار ( 0 )