نوقشت، أمس السبت، أطروحة جامعية في العلوم السياسية تقدم بها الطالب عماد كاكو، في موضوع “تفاعلات الدولة المركزية والدولة الترابية بالمغرب: دراسة لتمظهرات ثنائية مبدأ التدبير الحر ووحدة الدولة” تحت إشراف الدكتور عبد الرحيم المنار اسليمي، ,اما لجنة مكونة من الأستاذ حسين أعبوشي والأستاذ جواد النوحي والأستاذ أحمد بوجداد والأستاذ محمد الغالي والأستاذ سعيد الصديقي، وبعد المناقشة التي استمرت لأكثر من أربع ساعات، حصل الباحث على شهادة الدكتوراه بميزة مشرف جدا مع التوصية بالطبع.
وتندرج الأطروحة في سياق يتمحور حول التفاعلات المتبادلة بين الدولة المركزية والدولة الترابية عبر مبادئ جديدة، منها التدبير الحر المرتبط بتطورات تجري في مسار الدولة المغربية والشكل الذي تريد اتخاذه والوظائف التي تسعى إلى ترسيمها في علاقتها بالمجال الترابي المحلي.
وقدم صاحب الأطروخة أهم المفاهيم المركزية المؤطرة لبحثه، وهي ثلاث مفاهيم رئيسة:
-مفهوم مبدأ التدبير الحر
ويرى الباحث أن حرية التدبير أو التدبير الحر لا ينبغي اختزالها في مبدأ بسيط للتنظيم الإداري بالقدر الذي به تشكل حرية حقيقية، وهو الفهم الذي تم تأكيده بالفعل من قبل بعض فقهاء القانون العام في أوائل القرن الماضي، حيث تمثل بالنسبة لهم اللامركزية الترابية توكيدا للحريات المحلية. وكما يظهر ذلك أيضا في المناقشات التي عرفتها لجنة الدستور الفرنسي لسنة 1946، وذلك أثناء لحظة دسترتها لمبدأ التدبير الحر لأول مرة في دولة موحدة ويظهر بأن تسجيل مبدأ التدبير الحر في الوثيقة الدستورية، يعرب وبدون شك عن إرادة تكريس مادي للحريات المحلية وليس فقط مجرد مبدأ بسيط للتنظيم الإداري.
ولذلك ينبغي التمييز وبصورة دقيقة بين مفاهيم اللامركزية الترابية والتدبير الحر، فإذا كان مفهوم اللامركزية الترابية يظهر كمبدأ يحكم التنظيم الإداري للدولة، ويقوم على تفويض القوة العمومية وهذه الأخيرة توافق بإقراضها للجماعات الترابية في إطار “امتياز من جانب الجماعة العليا”، فإن التدبير الحر يبدو وكأنه حرية تتمتع باعتراف وضمان بموجب القانون الأساسي (الدستور) والذي بوجوده في هذه الوثيقة الأسمى يفرض احترامه ويكون ملزم للمشرع والسلطة التنفيذية على حد سواء، وبعبارة أخرى، يسري مفعول اللامركزية الترابية في الحالة التي تكون فيها الدولة تستفيد من واقع وجود مجرد جماعات تظهر باعتبارها وحدات إدارية بسيطة تتمتع بالشخصية القانونية، وهو الشيء الذي يعزز ويثبت علاقة خضوع لهذه الأخيرة وسمو للأخرى، وأما التنصيص الدستوري على حرية التدبير فهذا يفترض تقييد هامش تحرك الدولة في النظام الدستوري.
وتثير الطبيعة القانونية المتعلقة بالتدبير الحر للجماعات الترابية نقاش معين، ومن أجل تبسيطه في إطار تحليل قانوني، فهو يتناول مسألة ما إذا كانت حرية التدبير تشكل فعلا “حرية” حقيقية، أو إذا لم تكن بالأحرى مبدأ تنظيم الدولة والذي نتج عنه بعض الحقوق والحريات.
-مفهوم الجهوية المتقدمة
تعرف الجهوية المتقدمة على أنها ” شكل من أشكال تنظيم البنية الترابية للدولة تتداخل في تحديده العديد من العناصر التي يمكن إجمالها فيما يلي : “الجانب المرتبط بالتنمية، الجانب المرتبط بالإنسان من خلال المشاركة في العمل الجماعي على المستوى الجهوي، وهناك الجانب المرتبط بالنخب بكل تصنيفاتها وتفاعلاتها. ونتيجة لتطور بنيات الدولة وتداخل الصلاحيات وظهور عدم التوازن بين الجهات داخل نفس الدولة، ظهر مفهوم الجهوية المتقدمة الذي هو مرحلة من اللامركزية تمنح للجهات سلطات مفوضة لها من المركز.
ويجب التمييز هنا بين الجهوية المتقدمة والجهوية الموسعة لأن الجهوية الموسعة هي المرحلة اللاحقة على الجهوية المتقدمة. فالجهوية الموسعة هي شكل من أشكال الحكم الذاتي الضامن لهوية الإقليم واستقلالية المالية.
كما يجب التمييز بين الجهوية المتقدمة لكونها جهوية إدارية والمفاهيم الأخرى المجاورة.
-مفهوم الدولة الترابية
ارتبط هذا المفهوم بميشال بوفييه، حيث لاحظ أن حجم التحولات التي عرفتها الدولة والمجتمع بات مهما من الضروري إعادة النظر في نموذج الدولة المركزية المتدخلة إلى بناء نموذج جديد يدعى الدولة الترابية يقوم على إشراك الفضاءات الترابية ويتجاوز فكرة الدور الجوهري للميزانية العامة لصالح مجالات مالية ترابية وأحيانا خارج الفضاء العام، ويشير إلى الدور الذي تلعبه الجماعات الترابية في الإنتاج الاقتصادي.
لكن المفهوم لم يعد مرتبطا بالمجال المالي وإنما بات يطرح مقابل الدولة المركزية، فالدولة الترابية معناها تقريب الدولة من المواطن في المجال الترابي خارج المركز.
ويلاحظ أن النقاش حول الدولة قضية لازالت مطروحة وتبدو أحيانا خلافية مع وجود بعض التوافق بين الباحثين حول بعض التسميات للدولة مثل الدولة الشريكة التي تقوم على الحكم عن طريق عقود و”الدولة الاستراتيجية” و”دولة ما بعد الحداثة” و”دولة الخوصصة”.
وبعد ذلك تطرق الباحث إلى إشكالية الموضوع، ويتعلق الأمر بتحليل التفاعلات الموجودة بين الدولة المركزية والدولة الترابية بالمغرب وذلك عبر الدينامية التي خلقها وضع مبدأ التدبير الحر الذي يجعل شكل ووظيفة الدولة بالمغرب متأرجحة بين دولة مركزية ودولة ترابية، فالعديد من التمظهرات المرتبطة بمبدأ التدبير الحر تبين أن التفاعلات لازالت مستمرة في المغرب بين المتمسكين بالدولة المركزية ودعاة الدولة الترابية.
تتفرع عن هذه الإشكالية مجموعة من الإشكاليات الفرعية، تتطرق إليها الباحث في معرض البحث.
الحقول المعرفية المعتمدة في موضوع الأطروحة
واعتمدت الأطروحة على أربعة حقول معرفية في تناول موضوع الأطروحة:
-حقل القانون الدستوري، وذلك لكون تطور شكل الدولة في المغرب وو ظائفها مرتبط بهذا الحقل المعرفي الذي يتضمن ثلاث أنواع من القواعد: أولها القواعد الدستورية التي تنظم العلاقة بين سلطات الدولة، ثانيها قواعد دستورية مرتبطة بمجال الحقوق والحريات، ثالثها وهي قواعد جديدة تدخل ضمن نطاق القانون الدستوري للجماعات الترابية وتتضمن كل المقتضيات التي تنظم الجهة كوحدة ترابية.
-حقل العلوم الإدارية، وذلك نظرا لأن موضوع الأطروحة يتناول بالدراسة والتحليل القواعد والمبادئ التي تم الاعتماد عليها لوضع التنظيم وداخله وحدات إدارية وجماعات ترابية وكيفية تحديد أدوارها ونوع التعاون الذي يتم بينها والصورة التي تقدمها وهي تمارس أنشطتها وفقا لأسلوب الإدارة والفلسفة التنظيمية التي وضعتها السلطات في المغرب خاصة طريقة التفاعل بين ممثلي السلطات المركزية في المجال الترابي وممثلي السكان.
-حقل السياسات العمومية، بدراسة مجموعة أنواع التدخلات التي تقوم بها السلطات الحكومية المركزية والجماعات الترابية داخل نفس المجال الترابي، وذلك بتناول التدخل العمومي من ثلاث زوايا: أولهما زاوية مضامين تدخل السلطات العمومية في المجال الترابي، ثانيهما طريقة إعداد ووضع مسلسل التدخل في المجال الترابي، ثالثهما طبيعة الفاعلين المتدخلين وشكل مواردهم، فالأمر يتعلق في هذه الزوايا بتحليل العناصر التالية: من هي السلطة المتدخلة وما هي علاقتها بالدولة المركزية والدولة الترابية؟ ما هو نوع التدخل؟ وهل يكمل صورة التدبير الحر؟ وكيف يتم وضع هذه التدخلات في مجال ترابي محدد ضمن السياسات العمومية لحكومة مركزية؟.
-حقل علم السياسة، الذي يساعد في هذه الأطروحة على دراسة الصراع الجاري بين دعاة الدولة المركزية ودعاة الدولة الترابية والطريقة التي تتم بها التوافقات داخل المجال الترابي بين ممثلي السلطة المركزية وممثلي الساكنة، فالأمر يتعلق بدراسة الطريقة التي توزع بها القوة في الدولة المركزية نحو الدولة الترابية وتحليل الصراع وحله بين التجمعات الموجودة على الصعيد الوطني وطريقة تنفيذ القرارات السياسية.
خلاصات
وخلص الباحث في أطروحته إلى أنه يبدو من خلال المعطيات التحليلية أن مسار شكل الدولة في المغرب لا زال يتطور، ومن الطبيعي أن يظل التفكير في فلسفة التنظيم الترابي مستمرا، لذلك، فإن العديد من الاستنتاجات والخلاصات تحضر داخل هذا المسار التطوري لاختيارات شكل الدولة بالمغرب، حيث أنها رغم كونها دولة موحدة، فإن تحولات عميقة تجري في المقاربة المركزية والمقاربة الترابية لبناء الدولة.
هل ممكن ان احصل على نسخة من هذا البحث ؟؟