القرآن الكريم: حفظا وقراءة وتجويدا (3)
لم تكن المناطق السوسية أحسن حالا من نظيراتها المغربية، وقد وصف مؤرخها العلامة المختار السوسي أحوال أهلها مع قراءة القرآن بقول مختصر جامع: “إنهم مع إحسان التلاوة كالضب والنون، لم يتيسر أن يتلاقيا إلى الآن”، وهذا التباعد الشديد بين السوسيين وحسن القراءة جعل التجويد عندهم كالمجهول “جهالة ربما تكون عند بعضهم مركبة، تراهم في الحزب الراتب، وعند كل ما يتلو القرآن تال، يهذّون القرآن هذّا، مع السرعة والإغذاذ، إلا من بعض أناس، وقليل ما هم”.
واستفحل الأمر واشتد الخطب مع ظاهرة تحزّابت التي تعرفها المناطق السوسية، خصوصا في أيام المواسم، حيث تكون القراءة بالصياح خلافا للأدب الواجب تجاه القرآن الكريم، وهذا ما لم يتردد العلامة المختار السوسي في تحريمه، وفاقا للعلماء الأدوزيين والجشتميين الذين كانوا يعلنون في المواسم والأسواق تحريم هذه العادة، لكن هذا النفَس الإصلاحي لم يجد له صدى في المجتمع السوسي، ولم يصادفوا “إلا آذانا صما، وقلوبا غلفا”.
هذا الخلل في قراءة المغاربة قد لا يتفطنون له في بلادهم، لكنهم سرعان ما يكتشفونه حين ييممون وجههم نحو المشرق، وقد وقعت حادثة طريفة لأبي شعيب الدكالي في مصر حين نطق “الجذوة” بالدال المهملة دون إعجام، ولما ذهب الشيخ امحمد حدو أمزيان (ت:1417هـ) العميد السابق لكلية أصول الدين إلى مصر، عمد شيخ الأزهر إلى اختباره في حفظ وتجويد القرآن، فقرأ له أوائل سورة البقرة بالسرعة المعهودة بالمغرب، فأسكته وذكره بضرورة مراعاة الترتيل في قراءة القرآن. ولما كان الشيخ ابن الحسن الدباغ المراكشي بمصر أيضا، صلى بالناس صلاة جهرية في الجامع الأزهر، فاضطر المأمومون لإعادة صلاتهم من أجل تلاوته.
ويعد الشيخ عبد الله بن الصديق خير نموذج للقارئ المغربي الذي يتقن الحفظ والرسم ولا يتقن التجويد، فحكى عن نفسه أنه حفظ القرآن الكريم، وكانت له عناية كبيرة بالرسم، وحفظ معظم منظومة موارد الظمآن للخراز، ومع كل هذا، قال: “ولم يكن لي اعتناء بالتجويد ولم نكن نسمع به، لأنه انقرض منذ أكثر من مائة سنة، لا يعرفه كبار العلماء بالمغرب فضلا عمن دونهم”، وقد تعلم التجويد في مصر، ووقع له قبل أن يتعلمه نظير ما وقع للمذكورين قبله، حيث قُدّم للإمامة بالناس في المسجد الحسيني لعدم حضور الإمام، واستنكر كثير من المصلين صلاته لعدم تجويد التلاوة، وصلى مرة أخرى في قرية أويش الحجر، وقرأ سورة النصر، وبعد الصلاة نبهه بعض المصلين إلى أنه لم يمد “جاء” المد اللازم.
قد لا نبالغ إن قلنا بأن هذا هو الوضع العام لقراءة القرآن في المغرب، وقد عملنا على تغطيته من خلال مناطق سوس وفاس والشمال، وإذا توقفنا عند عبارة الإمام ابن الصديق بأن التجويد لا يعرفه كبار العلماء في المغرب، فإننا ندرك واقع العامة من باب أولى. وقد أحسن العلامة أحمد بن عبد العزيز الهلالي حين أورد نماذج من القراءة القرآنية غير السليمة، نورد نماذج منها:
أولا: إسقاط حرف اللين غير الممدود وتغيير حركة ما قبله، فيقول في “علَيْهِم” عَلِهِم، وفي “يوْم” يُم.
ثانيا: زيادة ألف قبل الواو والياء، لا سيما عند الوقف، وقد سمع غير واحد من الفقهاء يقرأ [قريش = قرايش، والصيف = والصايف، خوف = خاوف]، وهذا من فظيع اللحن.
ثالثا: إجراء الوصل مجرى الوقف، فيسكنون المتحرك في الوصل، فيقرؤون: “لا ريبْ فيه هدىً”، بسكون الباء ووصلها بالفاء، وهذا وأشباهه إن جاز عربيةً، فإنه لا يجوز في القرآن، لأنه سنة متبعة.
هذا، ولا يفوتنا أن نشير إلى أمور ثلاثة:
الأمر الأول: رغم الحديث بإسهاب عن آفة القراءة المغربية للقرآن الكريم، إلا أن الفضاء المغربي لم يعمه السواد ولله الحمد، إذ ظهر هناك قائمون لله بالحجة، من العلماء الربانيين المصلحين أمثال الإمام ابن عاشر والإمام الهلالي والشيخ الصوابي وغيرهم، ودعواتهم الإصلاحية وإن لم يتجاوب معها العامة، إلا أن بعض الناس ــ وإن كانوا قلة ــ قد تأثروا بهم وتلقوا منهم قواعد القراءة والأداء.
الأمر الثاني: ما قيل عن القراءة المغربية هو من باب التغليب، وإلا فإن العلماء والشيوخ الذين استنكروا هذه الأوضاع هم أنفسهم أشادوا بقراءة أهل تافيلالت، وهي المعروفة من ذلك الوقت إلى الآن بالصيغة الفيلالية، وهي قراءة منضبطة ملتزمة بالقواعد، تأثر أهلها بالشيخ سيدي أحمد الحبيب اللمطي السجلماسي (ت:1165هـ) وشقيقه سيدي صالح (ت:1179هـ) ومن أخذ عنهما من التلاميذ، قال عنهم العلامة أحمد الهلالي: “ما رأينا في هذا المغرب من وفّى حروف القرآن حقها، وأعطاها من المخارج والصفات مستحقها، سوى هذه العصابة، أولي التحقيق والإصابة”.
الأمر الثالث: نقر بأن قراءة القرآن في المغرب، سواء في الحزب الراتب أو في سائر المناسبات، ما زالت تعرف بعض الهنات، خصوصا في البوادي، لكن الأمر لم يعد عاما أو غالبا كما كان، بل تغير نحو الأفضل بكثير، بفضل تكاثف الجهود الرسمية والأهلية، وقد قامت الإذاعة الوطنية بمجهودات تُشكر ولا تنكر في هذا المجال، وكان العلامة الشيخ عبد الله الجراري رحمه الله أول من جود القرآن وأذيع عبر الأثير، وأعجب بذلك الملك محمد الخامس وشجعه عليه، واستمرت جهود المقرئين الكبار من أمثال الشيخ عبد الرحمن بنموسى الذي كان يؤم بمحمد الخامس وعائلته في التراويح، وتعرف عليه المغاربة بواسطة قراءته المغربية الأصيلة المتقنة المنقولة عبر الأثير، أو من خلال مقاطع كان يبثها التلفزيون المغربي في افتتاح أو اختتام الإرسال اليومي. كما كان للشيخ عبد الحميد احساين دور فعال في تجويد القراءة المغربية وتحسينها، خصوصا عبر برنامجه الإذاعي الشهير “كيف نقرأ القرآن؟”، أو من خلال جهوده في دار القرآن التي أسسها، ولعلها الأولى من نوعها في المغرب، وزادت شهرته حين عينه الملك الحسن الثاني أول مقرئ للمسيرة القرآنية التي تبث طيلة أيام شهر رمضان على أمواج الإذاعة وشاشة التلفزة. إضافة إلى جنود الخفاء الذين عرفنا ثلة منهم، مثل خادم القرآن الولي الصالح سيدي الحاج المكي بنكيران (ت:1421هـ)، الذي كان يعقد مجالسه القرآنية في بيته أو في المسجد الذي بناه بفاس أو بالزاوية الصديقية بها. وقد تلقى عنه قواعد التجويد عدد لا يحصى من الناس. وكان للشيخ مولاي الشريف العلوي المكناسي (ت:1395هـ) دور بارز في إحياء فن التجويد في مدن مغربية متعددة.
وإضافة إلى ما ذُكر وغيره، لا يمكن أن ننسى الجهود التي بذلتها الجمعيات والحركات الإسلامية في العقود الأربعة الأخيرة من تأطير منتسبيها وغيرهم في دورات لتعلم التجويد، أو من خلال المنافسات في مسابقات محلية ووطنية.
بناء على ما سبق، وقع تطور كبير في قراءة القرآن بالمغرب، سواء على مستوى القراءة الجماعية أو صلاة التراويح، وصار القراء المغاربة يحصلون على المراتب الأولى عالميا، وهذا من فضل الله تعالى أولا، وبفضل تراكم الجهود الإصلاحية المشار إليها، والتي لا تُرى ثمراتها إلا بعد تحقيق التراكم مع مرور الزمن، فهي وإن ظنها المختار السوسي صيحة في واد إبانئذ، لكنها في نظرنا كانت لبنة من لبنات البناء الحضاري، لأن الخطأ الشائع والمألوف والراسخ في المجتمع قد نفشل في إصلاحه دفعة واحدة، لكننا قد نفلح في إصلاحه بالذبذبات.
تعليقات الزوار ( 0 )