عرف الفقه الإسلامي مراحل متعددة، لكل مرحلة خصوصياتها، وبعدما وصل إلى مرحلة النضج، انتقل إلى مرحلة الجمود كما ينص على ذلك غير واحد من العلماء والباحثين، فتقوقع الفقهاء على المذهب الذي ينتسبون إليه، ولخصوه واختصروه، ثم اختصروا المختصرات ونظَموها، وبعد ذلك شرحوا المختصرات والمنظومات، ووضعوا على تلك الشروح حواشي وتعليقات، وصار الفقه مجرد أقوال محفوظة، وليس آلية تنتج أجوبة عن النوازل المستجدة على قلتها.
مع تطور الحياة وتشعبها، لم يعد بإمكان ذلك الفقه أن يجاري الحياة ويؤطر مسائلها، فنهض ثلة من العلماء وحملوا راية الاجتهاد والتجديد، فرجعوا بالفقه إلى أصوله، واعتنوا بمؤلفات بعينها تعنى بالدليل، مثل سبل السلام للصنعاني ونيل الأوطار للشوكاني.
في هذا الإطار، اهتدى الفقيه المصري سيد سابق رحمه الله إلى تأليف مؤلفات صغيرة مرتبة حسب الأبواب الفقهية، وسمى سلسلته تلك: فقه السنة، وهي التي جمعت فيما بعد في ثلاث مجلدات، ودخلت إلى كثير من البيوت، وصارت لها من الحظوة ما لم تجده تلك الشروح والحواشي لسلاسة أسلوبها وربطها المسائل بأدلتها.
لم يرتض متعصبة المذاهب هذا المؤلف عموما، والتسميةَ خصوصا، وطبقوا عليها مفهوم المخالفة، وقالوا بأن سيد سابق يعرّض بالمذاهب ويقول بأن فقهها مخالف للسنة، وشنوا عليه وعلى كتابه حربا خفتَ لهيبها دون أن ينطفئ، وها هو أحد أساتذة دار الحديث الحسنية (عضو في المجلس العلمي) ما زال مستمرا في ترديد هذه الأسطوانة إلى يومنا هذا.
(فقه السنة) هو الفقه المبني على الأصول المقررة عند المذاهب من قرآن وسنة وإجماع وقياس وغيرها، لذلك فهو بالضرورة فقهٌ مذهبي في حلة جديدة، لكن المتعصبة لم يفهموا هذا التحدي الحضاري فكانت مواجهتهم له جهادا في غير عدو.
الآن، ظهر فقه جديد، وهو (فقه القرآن) الذي ظهرت بواكيره الأولى مع محمد عبده، ثم نما أكثر مع تلاميذه، خصوصا محمود شلتوت والمراغي، والثلاثةُ ضعفاء في علم الحديث، (والإنسان عدو ما يجهل)، لذلك ردوا كثيرا من الأحاديث بحجة أنها مجرد (روايات)، وانتشرت أفكارهم نظرا لمكانتهم ومناصبهم التي قُلّدوها، والطلبة والشيوخ أتباع نحلة الغالب.
بعد ذلك، ظهرت مدرسة المعهد العالمي للفكر الإسلامي وما خلفها من دعم حركي عابر للقارت، وهي المدرسة التي ارتبطت بفكر رئيسها طه جابر العلواني الذي عرف بدوره تطورات انتهت به إلى إنكار السنة المنشئة للأحكام، إضافة إلى احتضانه لكثير من الباحثين مثل حاج حمد السوداني الذي يدعي بأن السنة ليست شارحة للقرآن ألبتة، إضافة إلى الجهود التي بذلتها بعض القنوات التلفزيونية الخليجية التي احتضنت جمال البنا وبعده محمد شحرور ومحمد هداية وغيرهم ممن لا ينضبطون إلى أي بوصلة ولا يؤطرون أعمالهم بأي منهج.
وحري بالذكر أن التعامل مع السنة هو فرع عن التعامل مع الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث ركز كثير من هؤلاء القرآنيين على شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم على اعتبار أنه بشر كسائر البشر، وكانوا يتعمدون الخوض في مناقشات اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم والأخطاء التي تصاحب اجتهاداته، مع الإغفال التام لكثير من النصوص القرآنية والحديثية التي تضفي قداسة على الذات النبوية.
وبعد اجتهاد هؤلاء في إنزال الشخصية النبوية من سمو عليائها وتسويتها بعامة البشر، جاء أبو القاسم حاج حمد ليبني على تراثهم وليصرح بأن القرآن هو الذي له حرمة خاصة، و”يستمد حرمته من حرمة الذات الإلهية”، مع العلم أن للذات النبوية وللشخصية النبوية حرمة وقدسية، لو اجتهد شلتوت والمراغي وعبد الوهاب النجار وأمثالهم في ترسيخها لبقي عند تلاميذهم ومن بعدهم للسنة حرمتها المرتبطة بحرمة صاحبها.
وهنا أسجل منقبة للصوفية الذين اجتهدوا في إثبات المزايا النبوية وأكثروا من الحديث عن الحقيقة المحمدية ليحافظوا على المكانة الرمزية والقدسية للشخصية النبوية في أذهان الناس، كما أسجل منقبة للعلامة أبي الفضل عبد الله بن الصديق الغماري المغربي الذي عاش في مصر وعاصر فترة تلاميذ محمد عبده وأفكارهم (التنويرية) وتقليلهم من شأن (الروايات)، فاجتهد أيما اجتهاد في إظهار المكانة الحقيقية للشخصية النبوية خصوصا في فترة سجنه في عهد جمال عبد الناصر، حيث عمد إلى تتبع آيات القرآن ليظهر من خلالها مزايا الرسول صلى الله عليه وسلم، وأثمر ذلك كتابه البديع “دلالة القرآن المبين على أن النبي أفضل العالمين”، كما تتبع نصوصا من السنة النبوية وجمع صفوة من الأحاديث الدالة على مزايا الرسول صلى الله عليه وسلم وأصدر سِفره الماتع “أفضل مقول في أفضل رسول”، وهو الكتاب الذي قدمه لأحد الصحفيين المتأثرين بالسلفية العبدية وتلاميذها فطالعه وقال له: هذا كتاب خرافات.
وحقيق بمن يصف النصوص الحديثية الصحيحة والمناقب النبوية المليحة بالخرافة أن يرفض السنة النبوية مطلقا.
وبالعودة إلى واقعنا الحالي، فإن الأعلام السابقين أثروا في عقول كثير من الشباب الذين صاروا جميعا مجتهدين ومجددين، وانتشروا في دروب وأزقة منصات وسائل التواصل الاجتماعي لنشر (فقه القرآن) ونبذهم لـ(فقه السنة)، مع ما لديهم من قدرات على رص الكلمات وترتيب الجمل، فضلّوا بالقرآن وأضلّوا به، وصاروا أهم محرفي الدين، لأنهم يحرفون الدين من الداخل وبأدواته الرئيسة، ومن نتائج ضلالهم وإضلالهم:
1 حكى لي أحد العلماء أن رجلا شكا له حالَه مع زوجته التي صارت تكتفي بثلاث صلوات في اليوم والليلة، تأثرا بهؤلاء المحرفين/القرآنيين، لأنهم يقولون بأن القرآن الكريم تحدث عن صلاة العشاء وصلاة الفجر والصلاة الوسطى، ولم يتحدث عن صلاة المغرب أو الظهيرة، ويقنعون المشاهدين بذلك بناء على النصوص القرآنية التي يقرأونها ويكتبونها على الشاشات، ويرفضون ما ثبت بالسنة النبوية بدعوى أنها (روايات)، وهي نفس الكلمة التي كان يقولها الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر. (أقول هذا وأكرره وأُذَكر به لنعرف أن العطب قديم).
2 ومن تحريفهم للدين أنهم رفضوا الحديث في الطهارة عن الحَدَث، واعتبروا الوضوء واجبا لكل صلاة، لأن الله تعالى ربط الوضوء بالقيام إلى الصلاة (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين).
3 ومن تحريفات القرآنيين أن المطعومات والمشروبات المحرمة هي التي صرح القرآن بحرمتها، كالميتة والدم ولحم الخنزير، ويصرون على القول بأن ما عدا المحرمات القرآنية ليست محرمة، ومن ادعى حرمتها فهو كاذب وكافر، معْرضين عن الحديث النبوي، وهم بهذا التحريف يبيحون من حيث لا يدرون أكل الكلاب والقطط والفئران والثعالب والنمور والأفاعي وغيرها مما لم يحرمه النص القرآني.
4 ومن تحريفات هؤلاء أيضا أنهم يصرحون بأن المحرمات في الزواج هن الأمهات والبنات والخالات والعمات وغيرهن من المذكورات في القرآن، ويبيحون ما عدا ذلك مما حرمته السنة النبوية، فيبيحون الزواج من أخت المرأة المرضع (خالة من الرضاع)، ويبيحون للرجل أن يجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، لأن هؤلاء النسوة لم تحرمهن إلا نصوص السنة، وهي في نظرهم مجرد (روايات).
5 ومن تحريفات القرآنيين الضالين المضلين أنهم يبيحون الخمر لأنه لم يرد نص قرآني صريح في تحريمه كقوله تعالى في غيره من المطعومات والمشروبات: “حرمت عليكم الميتة …”.
6 ومن تحريفات هؤلاء القرآنيين أنني سمعت أحدهم يقول في تفسير قوله تعالى: “إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة، فهل أنتم منتهون”، بأن الخمر لوحده لا يوقع العداوة والبغضاء، والميسر لوحده كذلك لا يؤثر، والآية تفيد في نظره أن العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة لا تتحقق إلا إذا اجتمع الخمر والميسر في آن واحد.
7 ومن تحريفات هؤلاء القرآنيين أنني سمعت أحدهم يقول بأن الصلاة تتكون من قيام وسجود وقراءة قرآن دون تحديد المقروء من فاتحة أو غيرها، وأن الركوع باعتباره انحناءة الظهر ليس من أفعال الصلاة أو فرائضها، والركوع المفروض في الصلاة هو الخضوع، بدليل أن الركوع يذكر مع الزكاة أيضا، واستدل للغطله بالآيتين: “وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين”، و”الذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويوتون الزكاة وهم راكعون”.
إلى غير ذلك من تحريفاتهم في الزكاة والصيام والحج وسائر المباحث، ومع هذا الكم الهائل من الانحرافات، وهذا الحضور القوي في وسائل التواصل الاجتماعي، لم نجد لمتعصبة المذاهب حضورا في دحض أطروحات (فقه القرآن) كما وقفوا من قبل ضد (فقه السنة)، وتركوا الشباب وكثيرا من النخبة من خريجي الشعب غير الشرعية ضحية إفك القرآنيين وضلالاتهم وانحرافاتهم، وصارت أفكارهم متداولة بين التلاميذ والطلبة، وولجت إلى البيوت دون استئذان في عصر الانفتاح المطلق.
وهنا أسجل بمرارة ما يقوم به بعض “أنصار” حجية السنة، لأنهم ما زالوا حبيسي القرون الماضية في طرائق تعاملهم، فتجدهم يجتمعون حضوريا أو عن بعد لعقد مجالس السماع، فتجد أحدهم يحدث بسنده المتصل عن أبيه عن عمه عن جدته لوالدته أن أباها حدثها عن مسند عصره أن فلانا حدثه إلى أن يصل إلى المصنف الذي يكون هو البخاري أو القاضي عياض أو غيرهما، ثم يسترسل في قراءة الكتاب بصوت مرتفع مع السرعة الفائقة لتقليص المدة الزمنية مع ما يلزم من ذلك من هضم الحروف وهذرمة الكلمات، ثم بعد ذلك يوزعون الإجازات على الحاضرين الذين لم يسمعوا جيدا ولم يفهموا شيئا، وحين يجمع بعض الشباب عشر إجازات أو عشرين فإنه يعتبر نفسه عالما وشيخا ويعقد هو بدوره مجالس السماع، وهذه الطريقة الكاريكاتورية لا أثر لها لمواجهة الانحرافات، بل يمكنها أن تسهم في تقويتها، أو يمكن للإنسان أن ينبذ هذه الطريقة وأصحابها وقد يرتمي إلى الإلحاد بالمرة في إطار رد الفعل غير المعقلن .
إننا اليوم أمام وضع خطير تجاه نصرة السنة النبوية، ونصرة الدين دون تحريفات المتعصبين والقرآنيين، وبدل أن تقوم شعب الدراسات الإسلامية في المغرب بدورها في إنضاج الدرس الشرعي والابتعاد به عن دروس الإملاء والحشو والتكرار والاجترار، وتكوين أطر الغد القادرة على فهم واستيعاب النص الشرعي وإنتاج فهم ديني مسدد، فإننا نجد بعض كوادر هذه الشعب “يجتهدون ويناضلون” من أجل برمجة “الثوابت” ضمن مقررات هذه الشعبة، مرسخين بذلك تهميشها أو ترسيخ تهميشها عن ميدان البحث العلمي الذي لا تتحقق النهضة بدونه.
abdellah4144@hotmail.fr
تعليقات الزوار ( 0 )