أصدر مرصد سبتة ومليلية، التابع لمعهد الأمن والثقافة (ISC)، الأسبوع الماضي، تقريراً حمل عنوان ”مدى ملاءمة مدينتيْ سبتة ومليلية لنظام الحكم الذاتي وكيفية اشتغاله”، حرّره الباحث والأكاديمي أدولفو هيرنانديث لافوينْطي، وقد نوقش في مجلس النواب الإسباني، وهو يُضاف إلى تقارير سابقة، ما فتئت تصدرها مراكز البحث والتفكير الإسبانية بشأن الوضعية الجيوسياسية للمدينتين المغربيتين المحتلّتين، في ضوء ما شهدته العلاقاتُ المغربية الإسبانية، إبّان السنوات الثلاث المنصرمة، من مدٍّ وجزْر لا ينفصلان، بالطبع، عن التجاذبات الدولية والإقليمية في منطقة غرب البحر الأبيض المتوسط.
وتلفت الانتباه في التقرير (45 صفحة) إشارته إلى “الجمود الذي يعرفه النظام القانوني لسبتة ومليلية بسبب افتقارهما صلاحيات تشريعية خاصة بهما، فضلاً عن عدم مرونة الدولة الإسبانية في تعاطيها مع ما يتعلق بتحديث آليات التشريع داخل مجلسي المدينتين”. وعلى الرغم من اللغة القانونية التي صيغ بها التقرير، إلا أن قراءة ما بين سطوره تكشف الأزمة العميقة التي تواجهها إسبانيا في إدارة هذا الملف، بكل تعقيداته التاريخية والجغرافية والثقافية. وهي أزمة تتجاوز ما أورده التقرير، بخصوص طبيعة الصلاحيات التشريعية الممنوحة لمجلسي سبتة ومليلية، نحو معضلة ”الاندماج الوطني” في المدينتين، وما تحيل إليه من أسئلة تخصّ الذاكرة والهوية والتاريخ ونمط الحياة وغيرها. ومن ذلك ما ساقه عن ”تسبُّب الإدارة المركزية لمنظومة التربية والتكوين في تدنّي جودة التعليم، فضلاً عن عدم ملاءمة هذه المنظومة للمشكلات ذات الصلة بإدماج الطائفة المسلمة الكبيرة”. يتعلق الأمر هنا بإقرارٍ، لا يخلو من دلالة، بالعوائق الثقافية والاجتماعية التي تحول دون اندماج سبتة ومليلية في الدولة الإسبانية، وكسر لعنة الجغرافيا التي تطارد اللاوعي السياسي الإسباني، وإنْ كان محرّر التقرير يحاول، في أكثر من موضع، ربط مشكلة المدينتين بحداثة عهدهما بنظام الحكم الذاتي (1995) مقارنة بالأقاليم السبعة عشر الأخرى التي يعود تطبيق هذا النظام فيها إلى نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات.
يتوخّى التقرير، في الظاهر، إغناء النقاش بشأن موقع سبتة ومليلية في النظام الدستوري والإداري الإسباني، في أفق بلورة حلول قانونية وسياسية تساعد على ملاءمة وضعهما مع السير العام لمؤسسات الدولة الإسبانية التي تحظى فيها الأقاليم بنظام الحكم الذاتي. بيد أن ذلك لا يخفي هواجس تساور قطاعاً عريضاً من النخب الإسبانية، بمختلف أطيافها الفكرية والسياسية، بشأن مستقبل المدينتين اللتين تقعان في شمال أفريقيا (بالتعبير الإسباني المتداول)، وتشكّلان رقماً صعباً في جيوبوليتيك العلاقات المغربية الإسبانية. فهذه النخب تدرك أن جذور الملف تعود إلى المواجهة التي شهدتها المنطقة طوال القرن 15، أي قبل سقوط الأندلس، بين المغرب من جهة وإسبانيا والبرتغال من جهة أخرى. هذه المواجهةُ، التي كان من علاماتها البارزة احتلال البرتغال سبتة (1415) واحتلال إسبانيا مليلية (1497)، لا تضفي الشرعية على احتلال المدينتين، في ظل حقائق الجغرافيا التي تحاول إسبانيا تجاهلها وتعويمَها في سردية كولونيالية متجاوَزةٍ، مستغلةً انشغال المغرب بملفّ الصحراء، إذ تدرك جيداً أنه لن يجازف بفتح جبهتين في الوقت ذاته، لما لذاك من تكاليف جيوسياسية لا يستطيع تحمّلها على المدى البعيد.
في هذا الصدد، يعتبر محرّر التقرير أن اختلاف المدينتين عن المجال الترابي الإسباني، بسبب حجمهما غير المتكافئ مع بقية الأقاليم الأخرى وموقعهما الجغرافي، يتطلّب استراتيجية واضحة لتعويضهما من الحكومة المركزية في مدريد، بما يساعد على اندماجهما أكثر في المجال الترابي الإسباني؛ اندماج لا يقتصر فقط على الجوانب الدستورية والتشريعية والإدارية التي تشكل عصب الحكم الذاتي، بل يستدعي أيضاً الجانبين الثقافي والاجتماعي، بكل ما لهما من أهمية داخل المدينتين المغربيتين المحتلتين.
تعليقات الزوار ( 0 )