لستُ أدري من هو ذلك الشيطان الرجيم الذي اخترع السجن؟ لا أحد يعرف اسمه، ولا كيف طرأت هذه الفكرة الجهنمية على رأسه. سيقول قائلٌ بحقّ، لا مناص من هذه المؤسّسة المقيتة لإبطال أفعال المجرمين وحماية المجتمع من أذاهم. نعم، هذا عين الصواب. ولكن ما ذنب المظلومين الذين يُدفنون فيه أحياء لمجرّد أنهم يجهرون بالحقّ أو يدافعون عن قضيةٍ عادلة؟.. وما أكثر هؤلاء حتى في الدول التي تسمّي نفسها “الديمقراطية”، أما فيما عداها من الدول المتسلطة التي تخشى على تسلّطها “من أغنيةٍ وكلمةٍ من شاعر خلاق”، كما يقول نزار قبّاني ويغنّي الفنان القطري الراحل عبد العزيز ناصر، فحدّث ولا حرج.
حرمان الإنسان من حريته هو حرمانه من الحياة مطلقا، ومن لم يجرّب عذاب السجون لا يعرف عن نعمة الحرية شيئا. ويكفي أن أذكر هنا حالة شخصٍ قضى بالخطأ ليلة واحدة في مخفر للشرطة، ومنذ ذلك الحين وفوبيا “القبّعات” تطاردُه، إذ يبدأ قلبُه في الخفقان ووجهه في الامتقاع كلما انتصب أمامه شبح شرطي أو دركيٌّ على الطريق. وإذا كان الأمر كذلك، فماذا نقول عن رجل ٍقضى أربعين سنة من حياته في سجون الصهاينة، لا لشيءٍ، سوى لأنه حمل في قلبه هموم أمةٍ بكاملها، ودافع عن أرض سلبت وعرضٍ اغتُصب؟
في يوم الخميس 5 يناير الجاري، تم الإفراج عن أقدم أسير على سطح الكرة الأرضية، الفلسطيني البطل كريم يونس. يا لهول اللحظات الأخيرة قبيل الإفراج وتلك التي تليه. تحضُرني في هذه اللحظة ذكرياتٌ مثيرةٌ ترسّخت في ذهني كالنقش على الحجر، ذلك أنه في نهاية أكتوبر 1991، كانت سيارة للدرك المغربي تطوي بي الأرض طيّا، وهي متّجهة إلى مدينة صغيرة في شمال المغرب تسمى غفساي، لتسلّمني إلى أهلي بعد 20 سنة من الاخفاء القسري في معتقلٍ رهيبٍ اسمُه تزممارت. .. وعند اقترابنا من المدينة، وكنتُ وقتئذ لا أزال مقيّد اليدين، معصوب العينين، بجلباب عسكري غليظ يغطي “قبّه” رأسي كله، بادرني النقيب المسؤول بلهجة متعاطفة قائلا: تلقيتُ تعليماتٍ صارمةً بعدم فكّ قيدك وإزاحة العصابة عن عينيك إلا عند تسليمك لقائد المنطقة، غير أن ضميري يأنَف من تطبيق مثل هذه الأوامر البليدة.
وما أن أخرجني الدركيون المرافقون من السيارة وفعلوا ما أمرهم رئيسهم، حتى تراءى لي منظرٌ لم أر مثل جماله وروعته في حياتي أبدا. فقد كانت تلك أول مرّة أعاود فيها رؤية الطبيعة بعد 18 سنة ونيف من العيش في الظلام المُطبق. شعرتُ وقتها بما يشعر به المبشّر بالجنة وهو يضع أولى خطواته على باب الفردوس. إنه الشعور نفسه الذي نطق به لسان الأسير المحرّر كريم يونس، حين وجد نفسه خارج السجن.
أين كانت غائبة عن عيني تلك الألوان الزاهية المزركشة، حين كنت أتيهُ بشبابي الغضّ، غافلا عن الدنيا وتقلباتها؟ وكيف استطعت التماسك بعد ذلك، ومنع نفسي من الانهيار، حين التقيتُ بأمي في ذلك اللقاء المشهود الذي طوّقت فيه عنقي كما تطوّق يدا غريقٍ لوحة عائمة؟ حُرم كريم يونس من هذا الإحساس، بعد أن غادرت أمه هذا العالم قبل شهور من الإفراج عنه، وهي التي ظلّت تعدّ الأيام والشهور والسنوات في انتظار لحظةٍ لم يمهلها القدر لكي تحياها.
نعم، إنها ذكرياتٌ كثيرةٌ تراودني هذه الأيام، بينما كنت أنتظر، كما الفلسطينيون كلهم ومعهم الوطن العربي وكل أحرار العالم، خروج هذا البطل الرمز الذي لم تحطّمه 40 سنة من الأسر الجائر. .. وإني لأتساءل، من أي معدنٍ صلبٍ نفيسٍ خُلق هذا الرجل؟ وكيف تمكن مقارنته بذاك الذي ركبه الرّهاب الدائم لمجرد قضاء ليلة واحدة في مخفر؟ وكيف ستكون حياته في الحرية، وهو قد عاش قرابة ثلثيها في السجن، ولن ينعم بلقاء والديه اللذين توفيا وهو في الاعتقال؟ وهل سيكون قادرا بعد ميلاده الثاني على التأقلم مع وسطِه وحياته الجديدة؟ لا أعتقد، الأسر الطويل متلفٌ لكل شيء جميل في الإنسان، ما عدا القناعة والكرامة لمن عضّ عليهما بالنواجذ.
مرّ شريط الذكريات أمامي، وأنا أتأمّل وجه كريم يونس، لمّا خرجنا، نحن أهل معتقل تزممارت إلى الوجود ونحن كهول. كنّا نبدو كأصحاب الكهف الذين بُعثوا في زمانٍ غير زمانهم، إذ وجدنا كل شيءٍ حولنا قد تغير، فكان علينا أن نبدأ كالأطفال تعلّم كل شيء من جديد، من طريقة المشي وأدب الأكل والحديث، إلى محاولة التحرّر من عادات سيئة كالكلام بصوت مرتفع وتقليب العينين توجّسا من كل شخص غريب، وهلّم جرّا ومحنة.
أعيش بروحي مع هذا الرجل الرمز الذي استرخص حياته في سبيل وطنه، ولم يفكّر في شيء قدر تفكيره في إخوانٍ له تركهم وراء القضبان، وتمنّى أن يكونوا معه تحت شمس الله الدافئة، حيث قال في ما قاله من كلام مؤثّر بليغ: “أحاول أن أتجنّب آلام الفراق ومعاناة لحظات الوداع برفقة إخوةٍ ظننتُ أني سأكمل العمر بصحبتهم، وهم حتما ثوابتُ في حياتي كالجبال…”.
وأنتَ بنفسك، أيها البطل، منارةٌ مضيئةٌ وجبلٌ شامخٌ أشمّ، أظهرتَ للمستعمر الغاشم وللعالم بأسره أن فلسطين السليبة، وإن ظلمَها بعض من أولي قرباها، وظلم ذوي القربى أشد مضاضةً، كما يقول الشاعر العربي، فإنها ستظلّ قضية كل عربي وكل إنسانٍ حرٍّ في هذا العالم، وآية هذا ذاك الالتفاف العظيم من حولها في بطولة كأس العالم لكرة القدم التي مرّت أخيرا في قطر، حيث رفع المشجعون من كل أقطار الدنيا رايتها، بل ومنهم من تلفّع بها حبّا فيها وتبرّكا بها. كما حملها الفريق المغربي خفّاقة في الملاعب الرياضية، حين أبدع وحرّك، بانتصاراته المبهرة، مشاعر الفخر والتفاؤل والأمل في قلوب أمتنا برمتها وقلوب جميع المستضعفين في الأرض.
هنيئا لنا بحرّيتك، وهنيئا لك بميلادك الثاني، الذي حرّكت لحظات مخاضه الأخيرة، وما رافقها من ملابساتٍ ومشاعر، في أحد أسرى معتقل تزممارت لواعج زمنِه الأغبر.
تعليقات الزوار ( 0 )