Share
  • Link copied

رجال سلطة زمن كورونا.. للمصالحة أم للتسلط؟

لو فعل رجل أمن ما فعله رجل سلطة من تعنيف وتعسف في حق مواطن لخرجت الإدارة العامة للأمن الوطني ببلاغ فوري تنفي أو تؤكد الواقعة، معلنة أنها فتحت تحقيقا وستخبر بالنتائج، ولخرجت قبلها جمعيات كثبرة تندد. هذا التعامل التواصلي لإدارة الأمن يشفي الغليل إلى حد كبير، ويجعل المرء يحس أن الدولة غير متعجرفة على مواطنيها، على الأقل تسارع لتفسير ومجازاة الواقعة، عكس تماما سلوك وزارة الداخلية مع المغاربة.

هذا السلوك يوضح بالملموس حجم التناقضات في إدارة السلطة في البلاد، ويوضح أيضا حجم الصراعات والخلافات بين مؤسسات الدولة إزاء التواصل بشأن الأفعال الاحتجاجية الاجتماعية كيفما كان حجمها. تناقض بين ذهنية تستعمل العصا ولا تتواصل، كأننا مازلنا تحت الاستعمار الفرنسي وتحت الحجر الأجنبي والوصاية زمن المقيم العام الجنرال ليوطي، وذهنية أمنية منفتحة تطورت وتأقلمت تحت ضغط التطورات في الذهنيات وفي وسائل التواصل، وتتواصل مع المجتمع، ولا تجنح لاستعمال العنف الشرعي الا بقدر حجم الخطر المقابل.

شخصيا لم أكن أنوي أن اكتب عن هذا الموضوع، حتى نبقى على إيقاع واحد متناغم، في جبهة واحدة، تعبر عن التلاحم الوطني، رغم ما لاحظه المغاربة من انزلاقات تنتمي للزمن القديم جدا لرجل السلطة. لكن أمام تكرار الفعل المهين لأفراد الشعب بشكل مريب ومتعدد، وصل إلى حد تعنيف صحفيي الدولة وللجسم الصحفي ككل الذي كان فاضح ملفات اراضي خدام الدولة، فلابد هنا من الانتصاب دفاعا عن قدسية المواطن في منظومة العهد الجديد التي رسخت مكتسبات حقوقية كثيرة دشنتها مع هيئة الإنصاف والمصالحة.

تكوين وثقافة رجال السلطة مقارنة مع ما راكمه المغرب والمغاربة من تطورات تعرف خللا ما، يجب تداركه حتى لا يدكوا على رؤوسنا ما بنته الدولة لسنوات. الدولة قامت بمجهود جبار من إجراءات وتواصل من أجل أن تنزع عن نفسها اتهامات التعذيب والتسلط، غير أن ممارسات بعض رجال السلطة المتكررة بشكل مخيف في التغول على المواطن، تدعو إلى القلق وإلى ضرورة البحث عن مكامن الخلل، خصوصا أمام إصرار وزارة الداخلية على عدم التواصل بشأن الحالات الموثقة بالصوت والصورة، أو التي أشارت إليها تقارير إعلامية.

إصرار غير مفهوم، فهل هو تنزيه لرجالات الداخلية عن الوقوع في الزلات الخطيرة، أم هو تأكيد لعقلية سمو رجل السلطة، من ولاة وعمال وغيرهم، على الدولة وعلى المجتمع وعلى جميع أطر البلاد من قضاة وأساتذة جامعيين ومهندسين وأطباء. سمو مستلهم من ظهير 1977، الذي أعطاهم صفتين: ممثلو الملك وأيضا مندوبو الحكومة، وبذلك صاروا هم الدولة كلها والبقية هوامش ومساعدون لهم، وهو سمو فرضته مدرسة ليوطي وطورها البصري لرجل السلطة الذي جعلت منه ملكا صغيرا في دائرة نفوذه.

لو أردنا أن نراجع الخطايا الكبرى لهذه المؤسسة في عرقلة التنمية في المغرب ثقافيا وسياسيا واجتماعيا، لألفنا فيها مجلدات ضخمة. خطايا تشمل المسؤولية في اختلالات التعمير والبناء العشوائي، و الاستثناءات التعميرية، وإزاء الفساد والمفسدين ومافيات العقار، مسؤولية سوء إدارة الاستثمار الجهوي مما دفع الدولة الى التفكير في صيغ بديلة، مسؤولية في الانتخابات والتدخل في تشكيل المجالس، و في المساهمة في التنخيب الانتخابي وإدارة الجماعات الترابية، مسؤولية اختلالات المجتمع المدني والتنمية البشرية، مسؤولية انفجار الإحتجاجات الاجتماعية، باعتبار رجل السلطة وسيط للدولة فوق الأحزاب السياسية وهو أول من ينبغي محاسبته قبل باقي الوسائط، وغيرها كثير من الاختلالات التي تعتبر السلطة المحلية ورجال السلطة مسؤولة عنها بشكل مباشر إو غير مباشر.

عندما تشاهد بائع سمك وهو يتعرض لتعنيف وتعسف غير قانوني وغير إنساني أمام الكاميرات، وعندما تشاهد سلوك عنف وضرب بوجه مكشوف وتعسف على الصحفيين وعلى بسطاء الشعب باستعمال عناصر لغة تسلطية لا تتماشى مع الظرفية بتاتا، يخيل إليك أننا مازلنا نعيش زمنا قديما لا علاقة له بزمن الملك محمد السادس. فما معنى أن يضرب رجل سلطة مواطن أو يهينه أمام عدسات كاميرات ظاهرة وليست خفية؟ أليس هذه عقلية زمن الاستعمار الفرنسي وقمة العجرفة والاستهتار بالدولة، وتعبير عن عدم الإيمان بالقانون وبالحقوق؟ ألا يجعلنا هذا نشك في مدى سلامة تدبير هؤلاء للانتخابات، و للحياة اليومية لمدننا خارج فترة الطوارئ الصحية؟

في الصورة المقابلة تقدم الدولة مشهدا مناقضا. مشهد رجل الأمن عندما يطبق إجراءات توقيف المواطن المخالف أو المعتدي وفق المنصوص عليه قانونا، يبدو لنا أننا نعيش زمنين وسرعتين:

زمن الانفتاح والتطور الحقوقي الباعث للأمل في مستقبل أفضل، يقاومه زمن فئوي للتسلط القديم، غير المبرر وغير المجدي، الباعث على التشاؤم والخوف من المستقبل.

سلوكات التعنيف السلطوي، أصبحنا نقرأ يوميا أخبار عنها منذ بداية حالة الطوارئ الصحية، ولا يمكن اعتبارها معزولة وشاذة. هي تعبر عن حصيلة تكوين رجل السلطة، عن مستواه التواصلي والخطابي، وعن قدراته في فهم المرحلة. تعبر أيضا عن تصرفه بقناعة تامة حول سلامة سلوكه. تعبر عن إحساسه العميق بأنه مدلل المخزن وبأنه خارج دائرة المحاسبة. تعبر عن وجود أو عدم وجود توجيهات رؤسائه إليه في هذا السلوك إو ذاك، وصمتهم القاتل أمام سلوكاته المشوبة بعيوب كثيرة وخطيرة. هي عينات علميا يمكن اعتبارها عشوائية، لكنها كافية لكشف مستوى التناقض، في إدارة السلطة التأطيرية الأمنية في البلاد.

المواطن شريك رئيسي وأساسي في حالة الطوارئ. هو من يصنع قيم الانضباط والتطوع والتضحية، في انسجام تام مع ما رسمته الدولة من إجراءات. ولا ينبغي أن يزايد أحد عليه، فلولا قدرة تحمله وصبره ورغبته في الحفاظ على قيمة المصير المشترك، لانهار كل شيء. الشعب بتلقائية، تطابق سلوكه مع خطط الدولة لسلامة الحميع ، ولم يكن ذلك تحت الإجبار أو التسلط الشيء الذي يراد إيهامنا به من خلال فيديوهات معدة السيناريو من قبل.

في نظري لقد فشل رجال السلطة في التواصل مع المواطن في زمن كورونا. لقد ضيعوا على أنفسهم فرصة تاريخية، لمصالحة تاريخية، مصالحة القرب مع الشعب. لقد أبانوا عن مستوى ردئ جدا في التواصل، واكتفوا بتواصل بدائي شعبي لا يليق بأطر عليا، مفروض فيها قيادة الإصلاح الترابي. أظهرت طرق تحركات معظمهم، بحثا عن النجومية الزائفة، وتعطشا كبيرا لممارسة التسلط بدل استعمال خطاب بيداغوجي تربوي تفاعلي تشاوري، ولكن هم أيضا استمدوا بعض شرعية سلوكاتهم من وزير الداخلية نفسه عندما قال أن السلطة مثل الأب عندما يضرب ابنه فهل الأب يرفس سمك ابنه في الشارع العام اللهم إلا اذا كان مريضا نفسيا؟

اللغة الوحيدة التي يمارسها معظمهم هي “ادخل لدارك” بطريقة تسلطية. فقد كنا نعتقد أن خروج هذه الأطر العليا للميدان، لم يكن من أجل “الحكرة” والتمييز الفئوي، أو مزاحمة رجال الأمن والقوات المساعدة وأعوان السلطة في مهام مزدوجة وركوب على مهامهم وأدوارهم، أو في ممارسة هذا الخطاب البسيط، الذي يمكن أن يقال بعدة صيغ تربوية. كنا نعتقد أن خروجهم للميدان إنما من أجل قيمة مضافة نوعية، في تفسير خطورة الظرف الصحي والاقتصادي، في المساهمة المباشرة في التوعية والتحسيس والتأطير البيداغوجي، في حل المشاكل الاجتماعية المترتبة عن كورونا. في الاقناع بضرورة توخي الحذر الصحي، عن طريق القرب، خصوصا في الأحياء الشعبية. في الأخذ بيد المواطن المغلوب على أمره، ومعاونته على التأقلم مع ظروف الجائحة. رجل السلطة هو مؤسسة تلتقي فيها جميع الطرق، بين السياسي والاجتماعي والاقتصادي والإداري، ينبغي أن يكون أسلوبه مختلف، متميز بذكاء دبلوماسي في التهدئة والسلم الاجتماعي وليس العكس.

الفرق بين تواصل الأمن والداخلية كبير جدا. الداخلية في البداية سبقت إعلان حالة الطوارئ ببلاغ وليس بقانون، رغم ما يكتسيه هذا الإجراء من تقييد للحريات. في أسبوع لاحق تبنت الحكومة بواسطة الداخلية مرسوم إعلان الطوارئ، من دون تحديد تاريخ بدايتها.

بداية يعلم الله كيف سيدبرها ويجتهد فيها القضاء، لترتيب جزاءات إيقاف الآجالات. هذا الوضع يعد ارتباكا غير مبرر أمام حجم بنيات وزارة الداخلية. ثم تكرر الخلل التواصلي والتقريري عند إقصاء الصحافة الخاصة، من ممارسة عملها الإخباري ومن التنقل بعد السابعة مساء، بعد تمديد حالة الطوارئ الصحية. كلها ارتباكات تؤكد وجود خلل في مكان ما، في هذه الإدارة ذات الصلاحيات الواسعة غير قابلة للخطأ الجسيم.

على العكس من ذلك الأمن الوطني، وهو نظربا بنية تابعة للداخلية، موجود في شبكات التواصل الاجتماعي بتواصل تفاعلي آني، يثبت ويتحقق من الوقائع ويطمئن المواطن، في حين هناك غياب وفراغ مهول أي تواصل للداخلية ورجال سلطتها، مما يدعو إلى التساؤول عن السر وراء ذلك. هل هو مرتبط بالشخصيات التي تدير المؤسسات، وبالتالي قد تزول هذه الطرق في التدبير مع زوال هذه الشخصيات، أم هي هوية خاصة بكل مؤسسة، ولا علاقة لذلك بإرادة دولة في الإصلاح، وهي مجرد اجتهادات شخصية حسب قناعات، كل مسؤول، غير راسخة في الدولة؟

انتقادنا لأداء رجل السلطة يمليه واجب المواطنة، الواجب تجاه الوطن، هذا الوعاء الحاضن للمغاربة بتنوعهم واختلافاتهم، وعاء ينبغي إعداده جيدا للأجيال اللاحقة،
للرقي بمستوى قيمه الموحدة والجامعة، إلى ما يطمح إليه كل مغربي. ذلك الطموح الذي يلهم كل الخطب الملكية في كل محطة من محطات تطور هذا البلد، بلدنا جميعا ولن يبنيه أو يقومه غيرنا، لأننا ببساطة لسنا جمهورا متفرجا وإنما شركاء في كل شيء.

لذلك وجب التنبيه، والحذر من مثل هذه الانزلاقات المتكررة، التي ظهرت بشكل كثيف غير متجانس مع قيم زمن التلاحم من أجل محاربة تفشي وباء كورونا. انزلاقات تدمر المعنويات، وتخلق تراكما من الاحتقان وتنشر النقمة على الدولة، هذه النقمة التي تعلمت كيف تتخفى في النفوس، إلى أن تنفجر في وجهنا جميعا عندما تتاح لها أول فرصة للتغابن الجماعي في الشارع العام.

*باحث في العلوم السياسية بكلية الحقوق أكدال الرباط

Share
  • Link copied
المقال التالي