منذ عصر فجر الإسلام وشعر المدائح النبوية يحتل مكانة بارزة في الأدب العربي الرفيع، كونه لا يصدر إلا عن حب نبيل مجرد عن دوافع المصلحة التي تخالج شعراء البلاط والقصور.
وتحت عنوان “مدائح النبي” صلى الله عليه وسلم، نقل المترجم “إدريس دو فو” (Idrîs de Vos) مجموعة واسعة منتقاة من قصائد المديح النبوي العربية للفرنسية في محاولة لتعريف قارئ لغة موليير بهذا الإرث الأدبي المتطور عبر العصور حتى زمننا الحالي.
النقطة الأولى التي يتوقف عندها المترجم “دو فو” في مقدمته هي رصده شعورا بالحيرة والارتباك لدى جميع الشعراء الذين عالجوا هذا الموضوع، وهو شعور يرده المترجم إلى المرتبة التي يحتلها خاتم الأنبياء في الإسلام التي تجعل من أي محاولة لمدحه صلى الله عليه وسلم مهمة عاجزة، مهما بلغت درجة فصاحتها أو فنها؛ فالأساليب الشعرية وإن كانت قادرة أحيانا على قول ما يتعذر التعبير عنه، فإنها غير مؤهلة لوصف الكمال.
وهذا ما يفسر، في نظر دو فو، اقتصار قصائد هؤلاء الشعراء على عرض مآثر النبي محمد عليه الصلاة والسلام وإحصاء معجزاته، بدون تناول شخصه بالذات. ولكن هل من وسيلة أخرى، يتساءل المترجم، طالما أنه يتعذر وصف الطبيعة البشرية إلا من خلال ملامحها البارزة وطالما أن ما يميز النبي محمدا في ضمير المسلمين هو تحديدا ذلك التناغم التام بين أفعاله والفضائل التي رفعها وروج لها؟
التوازن والكمال
ويقود هذا التساؤل “دو فو” إلى تحديد نجاح هؤلاء الشعراء في رهانهم انطلاقا من قدرتهم على منح قصيدتهم نوعا من التجانس والوحدة يعكس التوازن الذي يميز الكمال، كما هو الحال في قصائد الشاعر المصري البوصيري (1211-1295) أو في قصائد شعراء آخرين عبّروا عن صور جديدة، بحسب المترجم الذي نقل للفرنسية أيضا أشعارا أندلسية وصوفية وتراثية بينها أشعار الإمام الشافعي، وكتبا تراثية في موضوعات فقهية وصوفية.
وبعد وقفة قصيرة عند المدح كموضوع رئيسي داخل الشعر العربي اقتات منه شعراء كثيرون منذ الجاهلية، يبين “دو فو” أن موضوع مدح النبي محمد صلى الله عليه وسلم تطور بعيدا عن بلاط الملوك والأمراء لعدم إمكانية الاتجار به، وأنه بالتالي لا فائدة من محاولة العثور على أثر له في قصائد أشهر الشعراء “الرسميين”.
وفي حياته، مدح خاتم النبيين عليه السلام 4 شعراء هم: حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة وكعب بن زهير الذي يعد أفضلهم وصاحب قصيدة “البردة” الشهيرة التي تحولت إلى نموذج لشعراء كبار مثل البوصيري وأحمد شوقي. أما قصائد الشعراء الثلاثة الآخرين المدحية فتركزت أكثر على الإسلام وعقيدته.
ويلاحظ “دو فو” في هذا السياق مشاركة العديد من آل بيت النبي في مدحه، خصوصا بعد وفاته، فيستشهد برباعية تعود إلى ابنته فاطمة. بعد ذلك، يشير إلى تطور هذا النوع الشعري ببطء وفقا لتحولات الشعر العربي الذي كان يميل نحو تفنن وتنوع أكبر.
ولوصف الفضائل النبوية، يلاحظ المترجم نوعين من الصور الرمزية يتكرران بشكل ثابت: النوع الأول يتعلق بالنور، والآخر بالبحر.
وفعلا، نقع في غالبية القصائد على مقطع أو أكثر يؤكد إشعاع نور النبي محمد -صلوات الله وسلامه عليه- المشبه بالشمس أو القمر ومدى كرمه وجوده المشبه بالبحر، كما يقول كعب بن زهير “إنّ الرسول لنور يُستضاءُ به”. وقال البوصيري “وكلهم من رسول الله ملتمس… غرفا من البحر أو رشفا من الديم”.
ومن الصور الأخرى المتواترة داخل المدائح النبوية صورة العطر الموقظ للذاكرة والحنين التي استخدمت أولا بطريقة منهجية في مقدمة القصيدة قبل أن تنتقل إلى داخلها، مثل قول أحمد شوقي “بـكَ بشَّـر الـلهُ السماءَ فَزُيّنت وَتَـضوّعَـت مسكا بكَ الغبراءُ”.
ولتبرير هذا التكرار، يذكر المترجم الفرنسي أن الرهان الشعري حتى العصر الحديث لم يكن يكمن في الأصالة بقدر كمونه في بحث عن الكمال داخل المواضيع الموجودة أصلا. ولا عيب في ذلك، في نظره، شرط توظيف الشاعر الصورة الكلاسيكية ببراعة يتجاوز فيها سابقيه.
وبعكس الشعر المدحي العربي الذي ظهر وتطور بشكل رئيسي داخل بلاط الملوك والأمراء، يشير دو فو إلى نمو المدح النبوي خصوصا في حضن الصوفية، كما لو أن تخصيبه تطلب حبا غير مادي ومجردا من كل شيء، حبا صوفيا. وهو ما يفسر لماذا معظم الشعراء الذين مارسوا هذا الشعر هم من المتصوفين.
المثال النبوي
ومع نهاية القرن الـ19، يلاحظ المترجم “دو فو” تحول المدح النبوي في الشعر إلى ركيزة لإيقاظ الأمة الإسلامية من خلال العودة إلى المثال النبوي، لا سيما في الجدل الإسلامي الغربي.
وفي هذا السياق، يظهر كيف شكل تمجيد المبادئ الإسلامية والتذكير بالفضائل النبوية حبكة وأساس عدد كبير من القصائد الحديثة، وكيف استحضر الشعراء مجموعة قيم اجتماعية دعا إليها الإسلام وعلى رأسها المساواة بين البشر، كأحمد شوقي في قصيدة شهيرة غنتها أم كلثوم، أو الشاعر اليمني علي أحمد باكثير الذي تناول، في معرض رده على اتهامات غربية، موضوع المرأة للتذكير بأن الإسلام منحها حقوقا قبل أي ديانة أو فلسفة أخرى، وموضوع العبودية ليبين أن الإسلام وإن لم يلغِ هذه الظاهرة فقد وضع شروطا تفضي حتما إلى ذلك، كدعوته إلى تحرير العبيد ومنحهم إمكانية شراء حريتهم.
وبعد إشارة سريعة إلى الشعراء المسيحيين الشرقيين الذين ساهموا في مدح النبي محمد عبر التغني بفضائله ومزاياه، كاللبنانيين خليل مطران ورشيد سليم الخوري والسوري وصفي القرنفلي، يستنتج المترجم داخل هذا النوع الشعري في العصر الحديث إعادة توظيف المواضيع القديمة داخل أسلوب جديد يميل نحو الحداثة بدون أن يخضع كليا لها.
كما لو أن استحضار النبي المصطفى شكل غالبا عامل حيرة قاد الشاعر إلى أفكار شاملة، عن صورة شمولية الرسالة النبوية، كما يتجلى ذلك بقوة في بعض قصائد السوري بدوي الجبل، أو عامل تحرر وحالة صوفية وجدانية، كما في قصائد الشيخ مصطفى العلوي.
ولا تظهر أهمية هذه الأنطولوجيا فقط في إلقائها ضوءا كاشفا على نوع شعري غير معروف كثيرا في الغرب من خلال نخبة جميلة من القصائد، بل أيضا في جهد “دو فو” الترجمي ومهارته في هذا الميدان اللذين سمحا له بإسقاط هذه القصائد داخل اللغة الفرنسية بشكل رائع وحيوي يحترم بدقة القافية والوزن الشعري، وإن تطلب ذلك أحيانا هامشا واسعا من التصرف.
تعليقات الزوار ( 0 )