أما بعد…!!
بعد قرار المجلس الإداري لبنك المغرب برفع سعر الفائدة لتصل إلى 3% تطبيقا للسياسة النقدية الأرثوذكسية والنظرية النقدية في مواجهة التضخم عبر كبح السيولة في السوق المالية وتخفيض الكتلة النقدية الرائجة، خرجت مجموعة من الأصوات وبعض الباحثين، بل وحتى ممثلو المؤسسات المفروض فيها نوع من الرصانة والرزانة والكياسة في التعامل مع قرارات مؤسسات دستورية مستقلة على شاكلة البنك المركزي الذي يضمن عبر قراراته توازن النظام المالي والسيادة النقدية عبر الحفاظ على قيمة صرف العملة Le taux de change والذي يعتبر محددا أساسيا في كل عمليات التوريد عبر سلاسل التجارة التي لا تقبل إلا لغة الدولار الأمريكي، وكل خلل في هذا الباب تكون له انعكاسات على الأسعار وعبره مستوى الدخل ودوره في تغطية الحاجيات، وهو ما يؤدي إلى إنتاج ظاهرة التضخم وفق نسب متفاوتة مع ارتفاع أسعار المواد الأولية والاستهلاكية في السوق العالمية، والتي عرفت منحى تصاعديا منذ أزمة كورونا نتيجة الخلل الذي أحدثته في سلاسل القيمة العالمية وكذلك الآثار الناجمة عن الأزمة الأوكرانية الروسية و حالة الحرب المستمرة في شرق أوروبا.
أما بعد…!!
كانت من أهم تفاعلات هذا القرار خرجة المندوب السامي للتخطيط في حوار صحفي وجه خلاله سهام النقد لقرار مؤسسة بنك المغرب، إن لم أقل لوالي بنك المغرب، حيث قلل من شأن حزمة الإجراءات المتتالية وآثارها على خفض نسبة التضخم واعتبره تراكما هيكليا وليس فقط مستوردا وظرفيا، و”بشر” أن أمده سيطول…!
لن أطيل في تكرار ما جاء في الحوار الذي يمكن الرجوع إليه، لكن لغة السياسة ودغدغة المشاعر كانت حاضرة بقوة حين دعا لحليمي إلى قول الحقيقة للمغاربة، هذه العبارة تضرب في الصميم مبدأ الثقة في المؤسسة و كأنها لا تعطي الصورة الحقيقية لواقع الاقتصاد الوطني، ذلك دون أن يقدم السيد المندوب السامي أي معطيات أو نتائج دراسات محكمة تدعم أطروحته في مواجهة السياسة النقدية المتبعة من مؤسسة مستقلة ولا ترتدي قبعة ألوان السياسة، والدليل في ذلك أن هذا الخروج الإعلامي تبعته أصوات حزبية وإعلامية، بل حتى رئيس الحكومة عبر داخل قبة البرلمان، ولو بشكل غير مباشر، عن عدم الرضى حول التقييم الذي قدمه بنك المغربي لمسألة التضخم وتدبيره الموجه للداخل دون اعتبار الأسباب الخارجية والتي سماها التضخم المستورد.
أما بعد…!!
قوبلت ردود الفعل حول القرار بصمت والي بنك المغرب في حينها وانطلقت عملية التأويل والتنبؤ بدنو رأسه من عملية القطف من على رأس إحدى المؤسسات الإستراتيجية بسبب الخلاف الذي تجلى مع باقي المؤسسات حول آثار رفع نسبة الفائدة على عمليات تمويل الاقتصاد الوطني، وعبرها برامج الاستثمار العمومي ومخططات الحكومة وفاعلي القطاع البنكي، وهو ما رددت عليه في مقال سابق بجريدة بناصا الإلكترونية، لكن على ما يبدو فإن تجربة الجواهري الذي دبر إحدى أصعب المراحل في تاريخ المغرب، ألا وهي مرحلة التقويم الهيكلي في الثمانينات من القرن الماضي، جعلته يضبط ويدبر باحترافية العملية التواصلية واختار الخروج في اللحظة المناسبة حيث قدم على ضوء الاجتماع الأخير معطيات تؤكد وجاهة ما تم اتخاذه من تدابير عبر استقراء نتائج منحى الانخفاض في نسبة التضخم من 10% إلى 6%، وهو ما جعل المجلس الإداري يجمد نسبة الفائدة في 3% إلى حين استجماع المعطيات حول هذه المرحلة، وقراءة نتائجها والنظر في المتغيرات الممكنة، خصوصا وأن نفس النهج سارت عليه أهم البنوك المركزية في إقتصادات الدول المتقدمة و هو ما قدمه والي بنك المغرب عبر عملية Benchmark تدعم هذا الخيار وهذا الطرح وتدافع عنه وفق منهجية علمية واضحة.
أما بعد…!!
لقد قام والي بنك المغرب بوضع النقط على الحروف وتأطير العلاقة بين المؤسسات في مقاربة تدبير الخلاف وكذلك آليات التواصل المفروض اللجوء إليها وهنا انتقد السلوك التواصلي للمندوب السامي للتخطيط الذي كان من المفروض أن يكاتبه بدل أن يهاجم قرارات مدروسة وفق آليات وأدوات علمية ونظرية متعارف عليها وعلى نتائجها، وهنا أشار إلى غياب نخبة الأساتذة الباحثين والمختصين في المجال الذين لم يسبق لأحدهم أن قدم دراسات ونتائج أو قدم أطروحات مغايرة مدعمة بمعطيات موثقة قد تجعل المجلس الإداري يتدارسها ويعتمدها من أجل سياسة بديلة للمقاربة المتعارف عليها في كل الأنظمة المالية، بل دعا كل من مقترحات موثقة أن يقدمها و فتح الباب أمام كل المتدخلين وأرسل إشارة لمن يهمه الأمر من منتقديه بضرورة التمييز بين رأي المؤسسات الدستورية والآراء الشخصية التي لا تلزم المؤسسات في شيء(..).
إن هذه الخرجة يمكن فهم خلفياتها ودوافعها بعد مدة اختفاء مدير البنك المركزي وتواريه عن أضواء الإعلام التي من المفروض جرت خلالها الكثير من المياه، ويبدو أن ثلاثة الأشهر الفارطة أنصفت الرجل (…) الذي سيقدم في الشهر القادم تقريره السنوي أمام عاهل البلاد، حيث سيبسط تقييما ذاتيا ورقابيا للمؤسسة وسياستها وفق ما يتيحه الدستور من اختصاصات.
أما بعد…!!
أتمنى أن تكون إشارة والي بنك المغرب إشارة في كل الاتجاهات لضبط تدبير الخلافات والعلاقة التواصلية بين المؤسسات على أسس دستورية، وليس المواقع الصحفية والإعلامية حتى و إن كانت من منبر المؤسسات (…)، وهو ما تمت ملاحظته في واقعة أو واقعتين على الأقل بعد حوار المندوب السامي للتخطيط.
تعليقات الزوار ( 0 )