الاجتهاد في النوازل أصل راسخ في التشريع الإسلامي، إذ يتيح تنزيل الأحكام على الواقع بما يحقق مقاصد الشريعة القائمة على رفع الحرج، وجلب المصالح، ودرء المفاسد. ومن هذا المنطلق، فإن قرار أمير المؤمنين الملك محمد السادس بعدم إقامة شعيرة ذبح أضحية العيد هذا العام ليس تعطيلًا لحكم شرعي، بل هو مقتضى الشريعة في هذه الحالة، لأن الأحكام الشرعية تدور مع عللها وجودًا وعدمًا، فإذا تحقق سبب الإجزاء في أداء الأضحية وجب العمل بها، وإذا قامت موانع تحول دون ذلك فإن الحكم يتوقف شرعًا حتى تزول الموانع، فلا يكون التوقف هنا استثناءً، وإنما هو تفعيل لمبدأ فقهي أصيل يجعل الحكم الشرعي مرتبطًا بتحقق مقصده دون أن يؤدي إلى مشقة غير محتملة على المكلفين.
الأضحية في أصل التشريع سنة مؤكدة لا فرضًا لازمًا، وهذا ما قرره جمهور الفقهاء، ومنهم المالكية الذين يُعد مذهبهم معتمدًا في المغرب، حيث نص الإمام ابن رشد في “البيان والتحصيل” على أن الأضحية مستحبة للقادر، ولا إثم على من تركها عند عدم الاستطاعة، وهو ما أكده القاضي عياض بقوله إن الشرع رفع المشقة عن المكلفين، ومن لم يجد القدرة على الأضحية فلا حرج عليه، كما أقر الإمام القرافي في “الذخيرة” بأن التكاليف الشرعية تُرفع إذا تعذر القيام بها أو ترتب على أدائها مشقة زائدة، لأن الشريعة لا تقصد الإضرار بالمكلف. وهذا التوصيف الفقهي يؤكد أن الأضحية مشروطة بالقدرة، فإذا تعذر أداؤها أو أصبح يشكل عبئًا اقتصاديًا، فإن مقتضى الشرع هو وقفها لا الإصرار عليها، لأن الشريعة لا تكلف الإنسان فوق طاقته، بل جاءت برفع الحرج والتيسير.
قاعدة “ما جعل عليكم في الدين من حرج” هي إحدى القواعد الكبرى التي يقوم عليها التشريع الإسلامي، وهي تؤكد أن التكليف الشرعي مرتبط بالقدرة على الامتثال، فإذا ترتب على الالتزام بمقتضى السنة ضرر محقق على الفرد أو المجتمع، فإن التخفيف يكون واجبًا، لا ترفًا، وهو ما تؤكده قاعدة “إذا ضاق الأمر اتسع”، التي تُفهم في سياقها الشامل على أن كل حكم يؤدي إلى ضيق وشدة يقتضي تخفيفه بقدر الضرورة حتى تزول المسببات التي فرضت ذلك التخفيف. وبناءً عليه، فإن قرار رفع الأضحية هذا العام ليس تعطيلًا للسنة المؤكدة، وإنما هو تطبيق لهذه القواعد الشرعية التي جعلت التيسير أصلًا من أصول التشريع.
الاجتهاد الفقهي في مثل هذه المسائل يقوم على قواعد السياسة الشرعية التي تُنيط بولي الأمر مسؤولية تدبير شؤون الأمة وفق المصلحة العامة، انطلاقًا من القاعدة الفقهية المقررة “تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة”، والتي تمنحه صلاحية اتخاذ التدابير التي تحقق المقاصد الشرعية في الواقع. وقد نص الفقهاء، ومنهم العز بن عبد السلام في “قواعد الأحكام”، على أن تصرفات ولي الأمر يجب أن تكون وفق المصلحة، فإذا كان إطلاق بعض الأحكام المباحة يؤدي إلى ضرر أكبر، جاز له تقييدها بما يحقق المنفعة العامة، كما أقر الإمام الجويني في “غياث الأمم” أن للأئمة والولاة أن يمنعوا بعض المباحات إذا ثبت ضررها، لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وهو ما أكده الإمام القرافي في “الفروق”، حين قرر أن السلطان يمكنه فرض قيود على بعض المباحات إذا اقتضت الحاجة العامة ذلك، لا سيما إذا تعلق الأمر بالنظام العام والاقتصاد والأمن. وهذا التأسيس الفقهي يؤكد أن تقييد بعض الشعائر عند الحاجة ليس خروجًا عن الشريعة، بل هو تطبيق لها، لأن المقصد الأسمى منها تحقيق المصلحة ومنع الضرر.
ليس في تاريخ المسلمين ما يدل على أن الأضحية فريضة لا يجوز تعطيلها عند وجود أسباب معتبرة، بل إن السوابق التاريخية تدل على أن تقييدها لأسباب اقتصادية أو سياسية كان محل إقرار فقهي، كما حدث في المغرب ثلاث مرات خلال حكم الملك الحسن الثاني، وذلك عام 1963 بسبب “حرب الرمال” مع الجزائر، وفي عام 1981 خلال أزمة اقتصادية خانقة، ثم عام 1996 بسبب الجفاف الذي أدى إلى انخفاض كبير في أعداد الماشية، وكانت هذه القرارات تتوافق مع الفقه المالكي الذي يُقر بأن العبادات لا يجب أن تكون سببًا في وقوع الضرر، وإذا ترتب على أدائها ضرر محقق، جاز تعليقها مؤقتًا حتى تزول أسبابه.
رفع الأضحية لم يكن مجرد إجراء إداري، بل هو اجتهاد فقهي محكوم بمقاصد الشريعة، حيث لم يتم إلغاء شعائر العيد، بل تمت الدعوة إلى الحفاظ على مظاهره الروحانية الأخرى، من صلاة العيد، والصدقات، وصلة الرحم، والتعبير عن الشكر لله، وكلها وسائل تحقق الغاية الأساسية من العيد، وهي إحياء قيم التضحية والتكافل الاجتماعي. والمقصد من التشريع الإسلامي ليس الإبقاء على الظاهر دون اعتبار للواقع، بل تحقيق روح الحكم الشرعي بما يخدم مصلحة الأمة في كل ظرف وحال.
ليست المسألة إذن في نطاق تعطيل حكم شرعي، وإنما في تطبيق الأحكام وفق متطلبات الواقع، لأن الحكم الشرعي نفسه يقتضي توقف الأضحية مادامت الأسباب التي تمنعها قائمة، وتعود متى زالت هذه الأسباب. فالشريعة الإسلامية لم تجعل الأحكام جامدة، بل جعلتها مرنة وقابلة للتكييف وفق المستجدات، فإذا تغيرت الظروف التي أوجبت رفع الأضحية، عاد العمل بها تلقائيًا، لأن الحكم الشرعي يدور مع العلة وجودًا وعدمًا. وهذا ما يجعل القرار ليس مجرد استثناء ظرفي، بل تنزيلًا صحيحًا للفقه الإسلامي القائم على التيسير، وتحقيق المصالح، ودرء المفاسد، وهو نموذج حي لكيفية تفعيل السياسة الشرعية في إدارة الشأن الديني وفق ما يخدم الأمة، ويراعي أحوالها، ويتماشى مع مقاصد التشريع الإسلامي.
تعليقات الزوار ( 0 )