شارك المقال
  • تم النسخ

النيوليبرالية كسبب لمرض الوحدة النفسية

منذ بضعة أسابيع كتبت مقالاً عن الانتشار المتسارع لوباء مرض الشعور بالوحدة والغربة النفسي، ووعدت بالدخول في تفاصيل مسبباته وآثاره. وقد اضطرتني الأحداث الجديدة المتسارعة في الوطن العربي للكتابة عنها وتأجيل متابعة الموضوع.
نبدأ اليوم بإبراز أحد أهم مسببات ذلك الشعور النفسي، وعلى الأخص انتشاره في أوساط الشباب والشابات، بمن فيهم العرب. إنه ترسيخ ونشر وتزيين مبادئ ومنهجيات الفلسفة السياسية النيوليبرالية العولمية، وتطبيقاتها في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية على الأخص.

هذه الفلسفة التي تمجد بصور جنونية كل أنواع الحرية: حرية الاختيار، حرية الأسواق، حرية عدم الانصياع لأية توجيهات، أو تدخلات حكومية أو نقابية أو حزبية أو حتى عائلية في حياة الفرد والمجتمع، وبالتالي ركّزت على تمجيد استقلال الفرد عن أي ارتباط أو مسؤولية، إلا مصلحته الشخصية، وعلى تمجيد الحكومة الصغيرة المحدودة المسؤوليات، وبالتالي خصخصة كل الخدمات الاجتماعية والحقوقية، وعلى تمجيد التنافس إلى حدود المرض واللاقيم وتدمير الخصم، وعلى تمجيد الخروج على وإسقاط كل سلوك مجتمعي، حتى لو كان على حساب التاريخ والهوية والقيم الدينية الأخلاقية.

وبالطبع لعب الإعلام غير الملتزم، والخادم للمصالح، في تمجيد أبطال تلك الفلسفة من أمثال مارغريت ثاتشر ورونالد ريغان ورافعي شعار الطريق الثالث من أمثال توني بلير وكلينتون ومدرسة شيكاغو الشهيرة، وغيرهم من الأبواق ومروجي الصرعات العبثية. من هنا بدأت مشاعر الوحدة النفسية عند الملايين. فالرأسمالية النيوليبرالية قادت إلى مجموعة صغيرة بالغة الغنى، وعيش الترف بينما وجدت الأغلبية الفقيرة المهمشة نفسها معزولة ومحرومة، وبالتالي في عزلة عن كل ما يجري من حولها، بل موصوفة بأنها فاشلة وغير صالحة لأية منافسة. ولما كانت الفلسفة النيوليبرالية قد شددت على الفردية شبه المطلقة، فقد فُقد الارتباط والتعاطف مع الفقراء، وفُقد التعاطف الحكومي معهم، وفقد الترابط المجتمعي التاريخي مع الأسرة والجار والحارة والنقابة والحزب، وحتى صاحب مصدر الرزق، ودخل عالم الشعور بالوحدة الوجودية التي لا معنى ولا هدف لها، بل ولا حتى أمان وسكينة فيها.

كان كل ذلك تتويجاً لما قاله رونالد ريغان في ثمانينيات القرن الماضي: «إن الكلمات التسع المزعجة في اللغة الإنكليزية هي القول بأنني من الحكومة وإنني هنا لأساعد من يحتاج». كانت كلمتا الحكومة ومساعدة الآخرين موبوئتين في قاموس النيوليبرالية. وكان تتويجاً لما قالته مارغريت ثاتشر لشعبها ما معناه: لا يوجد شيء اسمه نقابة أو عائلة أو مجتمع، بل يوجد فقط فرد مستقل مسؤول عن نفسه، ولا توجد وسيلة لتغيير القلوب والنفوس إلا الاقتصاد. فجأة وجد العالم نفسه في داخل دوامة النيوليبرالية على أوسع نطاق، عندما تبنى السياسيون المسؤولون شعارات مؤيدة، مثل التفتيش عن المصلحة، أو عقلية الكلب الذي يأكل الكلب، أو أن الطمع صفة حميدة، أو أن الاستهلاك الفردي النهم يخدم المجتمع والاقتصاد، أو أن كلمات التضامن والتعاطف مع الآخرين هي كلمات من خارج العصر الذي نعيش. وبدأت البرلمانات والحكومات تبشر بمجيء الإنسان الجديد: إنسان الاقتصاد HOMO) ECONOMICUS ) بدلاً من الإنسان الكائن العاقل. بتساقط أو ضعف العلاقات الاجتماعية، علاقة بعد علاقة، وصعود الفردية المادية الاستهلاكية العبثية، كان طبيعياً أن يشعر إنسان العصر، وعلى الأخص شاباته وشبابه، المتطلعين إلى حياة ورفقة إنسانية بشتى أشكالها الأسرية والاجتماعية والثقافية والروحية، أن يشعر بالوحدة الوجودية، بل وأن يتساءل إن كانت هذه الحياة تستحق أن تصان وأن يشقى الإنسان من أجلها.

ولذا لن تقف مشاعر الوحدة عند تلك الحدود، إذ شيئاً فشيئاً ستقود إلى أمراض نفسية وعقلية وجسدية بالغة الخطورة، وسنحاول الإشارة إلى أخطرها في كتابات مستقبلية.

لكن دعنا نذكر أنفسنا بأن ليس المهم هو الوصف والتشخيص وحتى العلاجات للكثير من المحن التي يواجهها إنسان العصر، إنما المهم هو الإشارة إلى أسبابها الحضارية الخاطئة والنضال لمواجهة تلك الأسباب ودحر من وراءها. ستكون كارثة لو أننا أضعنا الوقت في التشخيص وأهملنا الأسباب.

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي