Share
  • Link copied

اختيارات السرديات ما بعد الكلاسيكية

عرفت السرديات في تطورها الانتقال من التركيز على «داخل» النص السردي إلى «خارجه»، أي من الشكل إلى السياق. وكان يستتبع ذلك الانتقال من الاختصاص (السرديات) إلى تداخل الاختصاصات وتعددها (السرديات ما بعد الكلاسيكية). لكن السؤال المركزي الذي يفرض نفسه في هذا النطاق هو كيف يمكننا تحقيق هذا الانتقال؟ ولما كان أغلب من ساهم في عملية تطوير السرديات جاء إليها من اختصاص غير سردي كان أن تعددت الاتجاهات السردية التي تعمل على تداخل السرديات مع علوم طبيعية وإنسانية واجتماعية. وفي الوقت نفسه نجد ممن اشتغل بالسرديات في المرحلة البنيوية يعمل بدوره على الاستفادة من بعض هذه العلوم لطرح أسئلة جديدة، وفتح مسارات مختلفة.

نؤكد أن تداخل الاختصاصات وتعددها كان ممكنا وضروريا في الثقافة الغربية حيث تشكلت السرديات وغيرها من الاختصاصات التي أمكن التفاعل معها، والانفتاح عليها. لكن السؤال الذي يمكننا طرحه، هنا والآن، والعمل على الجواب عنه هو: لم تتشكل عندنا السرديات بصورة ملائمة، ولم تتكون عندنا العلوم الاجتماعية والإنسانية، وغيرها من العلوم الجديدة، فكيف يمكننا، وقد صار الاتجاه أميل إلى الحديث عن السرديات ما بعد الكلاسيكية لدى بعض النقاد حاليا، الاشتغال بما لم نعمل على تكوينه؟ وكيف يمكننا الانفتاح على اختصاصات غير موجودة بالعربية؟ كيف يتاح لمن قال إن السرديات انتهت، أن يحييها بجعلها منفتحة على أحد الاتجاهات التي برزت مع السرديات ما بعد الكلاسيكية؟ كما أن من ليس له أي اشتغال أو اهتمام سابق بالسرديات أنى له أن يدعي البحث في أحد الاتجاهات السردية المهيمنة حاليا؟

إذا كان سؤال تداخل الاختصاصات في الغرب يطرح أسئلة ذات طبيعة إبستيمولوجية حول كيفية ممارسة هذا التداخل، فإن الأسئلة التي تفرض نفسها في المجال العربي أكثر تعقيدا. ففي غياب تقاليد سردية نظرية، وفي غياب اختصاصات موازية يمكننا الانفتاح عليها كيف يتسنى لنا تطوير السرديات عربيا؟ إذا لم نطرح هذا النوع من الأسئلة حول كيفية تعاملنا مع السرديات، والتفكير في تطويرها سنظل عالة على ما ينتج في الغرب من اتجاهات سردية جديدة، ونتعامل مع ما تقدمه من ممارسات، عن طريق ترجمتها إلى العربية، وتطبيقها تطبيقا لا يختلف عما اشتغلنا به منذ أن بدأنا نطلع على جديد النظريات الغربية. ويبدو أن هذا هو المنطق السائد، ولذلك فإن هذه التطبيقات مهما كانت قيمتها، وهي في الأغلب، ضعيفة، لن تسهم في تقديم قراءات ملائمة للنص السردي العربي، بله أن تسهم في تطوير السرديات العالمية.

إنها الكيفية عينُها التي اشتغلنا بها مع البنيوية التكوينية، والبنيوية، والنقد الثقافي، والتي لم نضف بها شيئا إلى فهمنا لنصوصنا السردية القديمة والحديثة، بله ادعاء مشاركتنا في النظرية الأدبية العالمية. وهي الذهنية نفسها التي صرنا نتعامل بها نحن الآن مع بعض اتجاهات السرديات ما بعد الكلاسيكية، وعند البعض وهم أنه لم يبق لديه شيء سوى أن يفرض وجوده على السرديات العالمية؟ لا يمكننا تطوير النظرية السردية العربية بالإنشاءات، والادعاءات ما لم نطرح الأسئلة الإبستيمولوجية التي تفرض علينا تعميق وعينا بالقضايا التي نهتم بها. ولعل أهم الأسئلة التي يمكن طرحها، علاوة على ما قدمنا: أي الاتجاهات السردية الجديدة التي يمكننا «التفاعل» معها؟ وما هي الخلفية التي تحكم علاقتنا بها؟ وكيف نؤسس لأنفسنا ثقافة في هذا الاتجاه أو ذاك مما نتبنى؟ ولماذا اخترنا هذا الاتجاه؟ وما هي القيمة المضافة التي يمكننا تحقيقها بالاشتغال على النص العربي قديمه وحديثه؟

هذه هي الأسئلة المحرجة والمقلقة في الوقت ذاته لمن يريد فعلا ان يسهم في تطوير الدراسة السردية العربية. أما ادعاء تبني اتجاه ما من الاتجاهات الجديدة في الغرب بدعوى أنه هو السائد، أو أنه فرض نفسه في الغرب، والمقبلون عليه لا حصر لهم، أو أنه يسعى إلى تجاوز الدراسات البنيوية بشكل لا نظير لدى غيره من الاتجاهات، وغير ذلك من الادعاءات، حتى وإن كان في كل ذلك ترويج فج، فإنه ليس سوى اتباع المركب السهل، وادعاء التميز. كما أن من يتبنى اتجاها من الاتجاهات الجديدة بسبب الإغراء النظري والثقافي الذي تمارسه، وليست له معرفة سابقة، أو تكوين خاص لا يمكنه أبدا إلا أن يكون «تابعا» لما ينتج، ومطبقا بطريقة لا تخلو من اختزال وتبسيط، وسيظل مرتهنا أبدا إلى اتباع ما يقدمه الآخرون.

وقفت على أكثر من أربعين اتجاها من اتجاهات السرديات ما بعد الكلاسيكية. فهل يمكنني، مثلا، ادعاء أنني سأطور السرديات العربية والعالمية بتبني «السرديات» التي تنفتح على الذكاء الاصطناعي، وأنا لا علاقة لي بالسرديات، أولا، لأن كل كتاباتي السابقة لم تكن تمت بأي صلة بالسرديات؟ من جهة. ومن جهة أخرى ظلت علاقتي بالذكاء الاصطناعي لا تتعدى علاقة أي مواطن عربي عادي بالهاتف الذكي، أو الحاسوب؟ إن الجهد الذي يمكننا أن نبذله لإقامة علاقة بالسرديات تطلب صبرا ووقتا. أما علاقتنا بالذكاء الاصطناعي فتستدعي عمرا. في غياب الوعي سأمارس الادعاء، وأترجم أبسط ما يقال في الاختصاصين، وأدعي أنني أطور السرديات العربية، وأطمع نيل موقع ضمن السرديات العالمية. ما قلته عن علاقة السرديات بالذكاء الاصطناعي، يمكنني أن أعممه على أي اتجاه من الاتجاهات الجديدة.

إن التفاعل مع أي اختصاص من الاختصاصات التي يمكن أن تنفتح عليها السرديات وليد اختيار وثقافة ووعي. وفي غياب أي من هذه الفعاليات لا يكون سوى التبسيط والاختزال لأن أي اختصاص صار بدوره معقدا، ومتعدد الاتجاهات، والمدارس والمقاصد. إن مختلف الاختصاصات القديمة والجديدة تعرضت لتحول عميق، وصارت متنوعة، ومتعددة. فكيف يمكننا ادعاء أننا سنفتح سردياتنا على اختصاص ما إذا لم تكن لنا دراية ومعرفة حقيقية بمختلف تياراته واتجاهاته، ليكون اختيارنا وليد وعي حقيقي؟

إن أغلب المشتغلين بـ«السرديات» في الوطن العربي هم خريجو كلية الآداب، وأقسام اللغة العربية وآدابها، ونحن نعرف جيدا، نوع التكوين الذي تلقوا وهو لا يتجاوز التلقين والحفظ والإنشاء، والقص واللصق، حتى قبل ظهور الوسائط الجديدة، إلى جانب التلخيص والتعليق، فهل يؤهل هذا التكوين الاشتغال بالسرديات وبالسرديات ما بعد الكلاسيكية؟ قد يبذل الباحث مجهودا ذاتيا لتطوير نفسه، وفي غياب الحوار، لا يمكنه أن يتعدى الحدود التي رسمها لها تكوينه الأصلي ما لم يقم بثورة حقيقية عليه.

فما هو الاتجاه الذي يمكننا الانطلاق منه لتطوير سردياتنا العربية؟ لم نطرح هذا السؤال، ونحن تحت تأثير الانجذاب إلى إغراء اتجاه ما من الاتجاهات التي باتت تفرض وجودها عالميا. ألا يمكننا تحديد الإبدال السردي العربي السائد حاليا، وننطلق منه لمواكبة إنتاجاتنا السردية؟ ما هي القضايا الجوهرية التي يفرضها علينا السرد العربي قديمه وحديثه، ولم نتقدم قيد أنملة في تناولها والبحث فيها، وإيجاد أجوبة عنها بدون تكرار ما نجتره من النظريات الغربية؟ لم يشتغل الباحثون العرب في العلوم الإنسانية والاجتماعية وغيرها من العلوم بالسرد على غرار ما نجد في البلدان المتطورة، فكيف يمكننا إقامة «سرديات أنثروبولوجية» مثلا في غياب دراسات أنثربولوجية عربية؟
ما أسهل الأجوبة الإنشائية في غياب الأسئلة العلمية.

Share
  • Link copied
المقال التالي