تحية طيبة الدكتور حسن طارق، سفير المملكة المغربية في تونس الخضراء، وأما بعد.
عندما فكرت في كتابة هذا المقال الصحافي احترت في أي قالب سأضع هذا المقال حتى لا يحاسبني أي صحافي عربي لا يزال وفيا لقوالب الكتابة الصحافية، ولذلك ترددت في الكتابة وأصابتني الحيرة، وها أنا لا أزال أتساءل مع نفسي، هل أعتمد قالب الهرم المعكوس المقلوب أم قالب الهرم المعكوس المقلوب المتدرج أم قالب الهرم المعتدل؟
وتساءلت مع نفسي هل عنوان المقال يصب في جنس الخبر حتى أعتمد الهرم المعكوس المقلوب فأبدأ من الأهم ثم المهم فأقل أهمية؟ أم يدخل في جنس التقرير أم التحقيق حتى أزاوج بين قالب الهرم المعكوس المعتدل وقالب الهرم المعتدل؟
لازلتُ حيران أستاذ حسن !
هكذا نحن العرب منذ قرون من الزمن، نتمسك بالقوالب ونفرط في المعاني، أمة تعتبر الشعر ديوانها عن حق وصدق، لكنا التفتنا إلى القوالب الشعرية من بحور وزحافات وعلل وضيعنا الشعر، حاولنا أن نوفق بين التقليد والحديث بقوالب منقولة بمبرر التجديد فوقعنا في التلفيق، خلطنا بين التحديث والحداثة دون وعي تاريخي متجدد فتقدمنا القهقرى وعاد محمد عبده يتحدث عن إصلاح التعليم أولا بعد افتراقه مع أستاذه جمال الدين الأفغاني ونهاية مشروع “العروة الوثقى”.
وعاد كرة أخرى عبد الرحمن الكواكبي يصيح فينا أن المشكل مع “طبائع الاستبداد” وعاد معهم أمير البيان شكيب أرسلان بسؤاله الحارق “لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟”.
وكم كان الأمير شكيب حزينا وهو يلاحظ أن الجهل والعلم الناقص، وفساد الأخلاق، والجبن والهلع، واليأس والقنوط، والتنكر للماضي المجيد، وشبهات الجبناء والجهلاء، وضياع الإسلام بين الجامدين والجاحدين..الخ، هي الآفات نفسها نمت وزكت وتفشت وذاعت بين الهرم المقلوب المعكوس والهرم المعكوس المتدرج الخبير المخبر، وبين الهرم المعكوس المتدرج المتحزب والنقابي الجمعوي والهرم المعتدل المتمثل في المجتمع.
وإن شئت أن أعرب لك الدكتور حسن عن الثالوث الذي حكم تفكيرنا السياسي والثقافي بالمغرب، وأنت أستاذ العلوم السياسية، لقلت بأن الهرم المعكوس هو الدولة، والهرم المتدرج هو الأحزاب والجمعيات، والهرم المعتدل هو الجماعة الوطنية.
لا زال نفس السؤال صديقي وأستاذي حسن نلوكه منذ ما ينيف عن قرن من الزمن، ونفس القضايا نحياها، ونفس المعضلة تتربص بنا ونعاني منها: التخلف الثقافي المتجسد في الوعي التاريخي، والتجزئة الجغرافية والروحية والفكرية، والاستبداد السياسي!
ألا تلاحظ معي دكتور حسن، وأنت الكاتب المثقف والباحث الملتزم الذي خسرناك في الجامعة وفي النقاش العمومي، خرجت من ضيق الأيديولوجيا إلى رحابة البحث الأكاديمي الرصين والانفتاح على المدارس والنظريات والمناهج فكنت تفيد وتجيد، أن جل الكتابات السياسية والثقافية بل والأكاديمية المحكمة تعتمد في الأساس على علمين اثنين: أحدهما ألماني والآخر أمريكي، ويتعلق الأمر بيورجن هابرماس وجون راولز، النقاش العمومي المنفتح عبر الفضاء العام ونظرية العدالة، فماذا يعني ذا دكتور حسن؟
الجواب ولا ريب: إننا نشكو من انكماش الفضاء العام في النقاش وغياب العدالة !
وهل يمكن أن نحوز نقاشا مفيدا ونطرح سؤالا في غياب الضمير؟ وما هو ضمير الأمم والشعوب؟ الجواب: إنه العالم المثقف في نفس الآن، هو من يستطيع أن يصالح الدولة مع المجتمع وليس الجنرال او رجل الأعمال !
دكتور حسن، دعني أقص عليك أحسن القصص التي يحق أن نفاخر بها نحن المغاربة.
يحكي لي الدكتور علي الإدريسي، وهو دبلوماسي سابق اشتغل في سفارة المملكة المغربية في تونس، وقبل أن أكمل القصة أحب أن أذكر أن علي الإدريسي كان معارضا يعيش في الجزائر، متزوج من سيدة جزائرية ويشتغل مدرسا في إحدى الثانويات، وهو حاصل على درجة الدكتوراه حول المهدي بن تومرت، وأطروحته حول الموضوع من أحسن الأطروحات التي اطلعت عليها دون أن ننسى الأطروحة المهمة للمفكر التونسي عبد المجيد النجار حول المهدي بن تومرت أيضا.
كان الدكتور الإدريسي يكتب مقالات في المجلات والجرائد الجزائرية، وذات يوم جاءه رسول السفير المغربي بالجزائر يطلب منه لقاءه، فعلا تواصل السفير المغربي مع المعارض المغربي الاتحادي، فوقع الصلح وعاد المعارض إلى وطنه معززا مكرما بل أصبح مستشارا ثقافيا بالسفارة، ,أستاذا بجامعة محمد الخامس بالرباط، وبما أن له علاقة مميزة مع جل المثقفين الجزائريين فقد قام بما يلزم في تنشيط الدبلوماسية الثقافية بين البلدين الشقيقين.
ويحكي لي أيضا الصديق الدكتور الإدريسي قصة مثيرة حدثت له لما كان يشتغل مستشارا ثقافيا بالسفارة المغربية في تونس، يقول بأنه استدعى مجموعة من المثقفين في تونس لحضور نشاط من تنظيم السفارة، فحضر الكثير من المثقفين ومن بينهم المفكر والفيلسوف أبو يعرب المرزوقي، ولما دخل الدكتور المرزوقي مقر السفارة استغرب كيف تم استدعاؤه وهو المثقف المغضوب عليه من نظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، فكان الجواب: يا دكتور المرزوقي أنت ضيف المملكة المغربية، أنت ضيف جلالة الملك!
في حديث مطول قبل اسبوع ونيف مع المفكر أبو يعرب المرزوقي تحدثت معه عن القصة، فأخبرني بأنه حاصل على وسام من درجة قائد من جلالة الملك!
– الحسن الثاني؟ سألت.
-لاااا، من جلالة الملك محمد السادس، يجيب المفكر المرزوقي.
وقال: أنا قائد مغربي في تونس، وضحك.
قلت: قائد مغربي مهدد في السجن في تونس!
ضحكنا معا، لكن صدقني أستاذ حسن أني تألمت أن يكون مفكرا وفيلسوفا متقدما في السن مهددا بالسجن في تونس!
ذهبت لأتأكد، فوجدت الخبر التالي:
“حظي الفيلسوف الدكتور أبو يعرب المرزوقي بتكريم من جلالة الملك محمد السادس، حيث وسمه بوسام ملكي، وذلك خلال الزيارة الرسمية التي قام بها جلالته إلى تونس، في 24 ماي من عام 2000، واستغرقت ثلاثة أيام، بدعوة من الرلايس التونسي الأسبق الراحل زين العابدين بن علي”.
كنت أمني النفس في الاتصال المطول مع المفكر التونسي أن أظفر منه بحوار مطول حول المشاريع الفكرية بالمغرب والمشرق وخاصة أن الدكتور المرزوقي صديق للكثير من المفكرين فمنهم من قضى نحبه ومنهم لا يزال على القيد الحياة، ومنهم من هو مهدد بالسجن كما يحدث مع أبي يعرب نفسه، غير أن أبا يعرب اخبرني بأنه سيجري معي الحوار في رمضان المقبل إن لم يتم اعتقاله!
زاد ألمي صراحة !
هل يرضيك دكتور حسن، بل هل يرضينا جميعا نحن معشر المغاربة، بل نحن المغاربة والتونسيين، بل نحن المغاربة والتونسيين والعرب أن يعتقل مفكر وفيلسوف ورجل مسن صاحب رأي رصين ومحكم؟
أعلم جيدا دكتور حسن أنك غير راض، ونحن أيضا غير راضين، فهل يتدخل صوت الحكمة والعقل كي يتصالح الحاكم مع المثقف من أجل قومة فكرية وثقافية وسياسية تجيب عن سؤال التخلف والتبعية والتجزية والانسداد السياسي في زمن باتت المنطقة مهددة في وحدتها امام المشاريع التي ترمي إلى تقسيم المقسم وتجزيء المجزأ؟
سؤال فقط سيدي السفير… ولكم واسع النظر!
تعليقات الزوار ( 0 )