في تاريخ الأديان و الفكر الإنساني عموما والفكر الإسلامي خصوصا ،غالبا ما نشأت المذاهب الدينية و َالحركات الفكرية على يد مؤسسيها ، لأهداف تنويرية وحداثية، تهدف إلى تجاوز الفكر الموروث السائد. لكنها سرعان ما كانت تتحول بذاتها إلى عائق أمام التطور والتقدم مع مرور الوقت، وغالبا ما كان يتم ذلك عندما تتحول هذه المذاهب والحركات إلى سلطة أومؤسسة بيد الحاكم ، تخدم استقرار الوضع القائم فينشأ عن ذلك جيل من التلاميذ والأستاذة الوثوقيين الدوغمائيين كتاب المتون والهوامش والشروحات على النصوص المؤسسة. فيقع الاجترار والتكرار ، ويختفي الفكر النقدي المبدع الخلاق، ليحل محله الفكر المستكين ، وتصبح أي انفلاتة أو اجتهاد أو محاولة إصلاحية تجديفا وزندقة يكون مصيرها احيانا القتل، أو النفي والتشريد فيتم تأليه الزعماء وتحويلهم إلى أصنام باستعمال عمليات تزوير وتحريف لهذه النصوص المؤسسة.
ففي الديانة اليهودية مثلا اختفت ألواح موسى لتظهر التوراة بعد السبي البابلي لنبوخد نصر مع إظافات جديدة للحاخامات والكتبة من أمثال عزرا ومن جاء بعده. فتشكلت على إثرها نصوص التلمود التي ستصبح أكثر أهمية باعتبارها تدخلات الرب في التاريخ لأنقاد اليهود من التيه ، بالعودة إلى الأرض الموعودة أورشليم . ولهذا فغالبا ما توقف الزمن عند لحظات معينة، ولم يستطع تجاوزها لمئات السنين من الركود، كما أنه غالبا ما يقع الارتداد عن الأهداف الحقيقة للأفكار المؤسسة الأولى. وتحدث الانحرافات والارتكاسات والانتكاسات فتتحول الأشياء إلى أضدادها. وهذا ما يفسر أن الإنسانية ظلت تدور حول نفس الأفكار والأطروحات ولم تحدث أي طفرات مهمة إلا في لحظات قليلة واستثنائية هي التي أحدتث بعض التحولات وزحزت المياه الراكدة لتندفع إلى الأمام. ومن أمثلة ذلك وقائع كثيرة منها ما وقع في الديانة البوذية التي تحولت مع مؤسسيها سيدهارتا جوتاما من رسالة تنوير كبرى إلى أن تصبح ديانة مغرقة في الصنمية والطقوسية والكهنوتية وقد تنبه لذلك بوذا قبل موته حيث قال لأتباعه : ( العناصر التي تحدد الأشياء والأشياء التي تحددت، تصير قابلة للانحراف، فانتبهوا جيدا ولا تأخذكم الغفلة أبدا) . ويبدو أن هذه الوصية قد احترمت من طرف الجيل الأول من المعلمين، إلا أنها سريعا ما تلاشت وصارت إلى ما يناقض المبادئ الأصلية، بتحولها إلى ديانة رسمية للدولة على عهد الملك أشوكا، حيث بنيت الأديرة وأصبح لها كهنة منتفعين من تبرعات الأتباع، وأيديولوجية للسلطة الحاكمة. وكذلك مرت المسيحية بنفس الأدوار والأطوار فتحولت من ديانة إصلاحية تجديدية لفساد أحبار اليهود الفرسيين، الرامية إلى تخليصهم من الجمود، والتحريف الذي طال العهد القديم مبشرا بالخلاص. يقول يسوع المسيح:(إنما بعثث لخراف بني إسرائيل الضالة). تحولت المسيحية بعد عهود من الاضطهاد الروماني بتعاون مع اليهود. إلى ديانة متحالفة مع السلطة القائمة حيث أصبحت الديانة الرسمية للإمبراطورية الرومانية في عهد الإمبراطور العظيم قسطنطين. الذي إعاد صياغة المسيحية بالوثنية الرومانية ومن ذلك إصباغ الصفة الإلهية على شخص المسيح في المجمع المسكوني الأول بنيقيا. وكذلك كان مصير عدد من الحركات الدينيةوالمذاهب الإسلامية حيث بدأت حركات متحررة من القيود السلطوية الزمنية إلى أن تصبح سببا في الجمود والتخلف والنكوص إلى الوراء. ومن ذلك على سبيل المثال عدد من من حركات التصوف التي تحولت من الرغبة في تحقيق الانعتاق الآخلاقي والخلاص الفردي . إلى حركات طرقية شعبوية تكرس التخلف كالطريقة العيساوية والحمدوشية والدرقاوية والركراكية وغيرها.
وكذلك الأمر حصل مع أكبر فرقة فكرية عقلانية في تاريخ الإسلام وهي المعتزلة، مع مؤسسيها واصل بن عطاء في نهاية العصر الأموي، والتي بنت مبادءها وأصولها الخمسة على معازضتها الفكر آنية على نقض الأسس التي قامت عليها سلطة الأمويين. والتي ملخصها:( أن ما أراد الله كان وما لم يرد لم يكن) أي أن سلطتهم كانت قائمة على إرادة الله، أي على الجبرية، باعتبار أن الخليفة ظل الله في الأرض، فكانت معارضتهم في حقيقتها معارضة سياسية، بحمولات عقلانية هدفت إلى نقد ونقض الأسس التي قامت عليها الدولة. معارضة مراوغة باعتبارهم لم يكونوا طامعين في الوصول إلى الحكم. ورغم ذلك فقد تصرفت السلطة مع عدد من الرموز الفكرية قبلهم عن طريق تصفيات دموية، كما حدث مع معبد الجهني الذي قال بنفي القدر، وأن أفعال الإنسان من خير أو شر، هي ناتجة عن إرادة إنسانية حرة وعن اختيار. وليست ناتجة عن قدر وإجبار. وإلا لأصبح الجزاء والعقاب محض عبث. وظلم. وانهدم تبعا لذلك الأساس الذي يقوم عليه العدل الإلهي. وهذا النقد أصاب المنظومة الفكرية للسلطة القائمة في مقتل، ورغم أن إمام أهل الحديث يحى بن معين وثق معبد الجهني، وقال عنه أبو حاتم الرازي صاحب الجرح والتعديل وكتاب العلل بأنه رجل صدوق. ومع ذلك فقد سلطت عليه السلطة علماءها الرسميين. الذي أعتبروه زنديقا وضالا ومضلا. فأعتقله الحجاج بن يوسف الثقفي وعذبه بجميع أصناف العذاب وتم صلبه وقتله على عهد عبد الملك بن مروان. وهو نفس المصير الأسود الذي آل إليه مثقف تحرري آخر هو غيلان الدمشقي والذي قطعت أطرافه ووضع على قارعة الطريق ليقول له المارة هذا قضاء الله وقدره فيك ََفكان يرد عليهم بأعلى صوته، أن الله ليس بظلام للعبيد وأن هذا القضاء إنما هو قضاء الظلمة. فتم صلبه وقتله. وكذلك كان مصير عابد زاهد متحرر آخر، هو الجعد بن درهم الذي اعتقله خالد بن عبد الله القسري في أول يوم من أيام عيد الأضحى حبث قام في الناس خطيبا خطبة العيد قائلا : أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن أدهم…) ثم نزل ودبحه وهذا الأمير كان مع الأسف من رواة الحديث روى عنه الإمام أحمد في مسنده وأي داوود في صحيحه، وقد ذاق من نفس الكأس وقتل بنفس الطريقة، على يد الخليفة الوليد بن يزيد . وهذا القتل الدموي الداعشي هو نفس ما تكرر طوال التاريخ الإسلامي ضد الفلاسفة المفكرين الإصلاحيين والتجديديين من أمثال ابن سينا وابن المقفع والرازي والحلاج وابن رشد والفارابي ومع كل هذا النظال من أجل العقلانية والاصلاحية وانتقاد الأسس الفكرية للسياسات الظالمة فقد تحولت المعتزلة بذاتها إلى حركة متحالفة مع السلطة في عهد الخليفة العباسي المامون وخير مثال على ذلك مساهمتها في المحاكمات المتعلقة بقضية خلق القرآن والتي قتل وعذب فيها عدد كبير من الشيوخ والعلماء وأبرزها محنة الإمام أحمد بن حنبل ، الدي اعتزل ولزم داره وامتنع عن قبول أعطيات وهدايا الخليفة المتوكل وامتنع عن التحالف المريب مع السلطة الجديدة لكن تلاميذه خذلوه فيما بعد وعمدوا تأسيس الحنبلية الوثوقية الأرثوذكسية على نقيض ما كان عليه الإمام من الزهدية والورعية ، فانتصر العقيدة السلفية وتم القضاء على النهوض العقلاني إلى الأبد، ليدخل بعدها العالم الإسلامي إلى عصور من الجمود والتخلف لن يفيق منها المسلمون إلا ونابليون يدك أبواب القاهرة ويدخل الأزهر الشريف. وبعده جيوش الاستعمار الامبريالي تحتل أقطارهم الواحد تلو الآخر . فضاعت ومضات ولحظات مشعة منيرة كانت من الممكن أن تكتب تاريخا حضاريا آخر.
تعليقات الزوار ( 0 )