خلف مشروع قانون المتعلق بتقنين استعمال وسائل التواصل الاجتماعي وشبكات البث المفتوح انتقادات وجدالات واسعة النطاق شملت مختلف أطياف المجتمع وبغض النظر عن الظروف والسياقات التي تحكمت في صياغة هذا المشروع ،والمقاصد والأهداف من وراء طرحه أو تسريبه ،وما رافقه من بلاغات حزبية متناقضة تحكمت فيها مصالح حزبية ضيقة و التي تحركها نوازع انتخابية بدرجة أولى، خصوصا الصراعات القائمة من داخل مكونات الأغلبية الحكومية ،فان الحقيقة الظاهرة والماثلة للعموم هي أن هذا المشروع تمت المصادقة عليه داخل المجلس الحكومي ،مما يؤكد أنه حظي بقبول كل مكونات الحكومة رغم السيل الهائل من التبريرات والمسوغات التي ترنو إلى ممارسة نوع من الخداع والتضليل بالنسبة للرأي العام الوطني، وحتى الدعوة إلى تشكيل لجنة تقنية وزارية لتعديل المشروع ،فهي كلها عناصر تؤكد الجرم المشهود للحكومة بهذا الخصوص وبصيغة تضامنية أيضا،وحتى قرار الحكومة تأجيل مشروع هذا القانون إلى ما بعد الانتهاء من فترة حالة الطوارئ بدل سحبه بشكل نهائي يطرح معه تساؤل جوهري ويستنطق إلى حد كبير نوايا الحكومة ومدى اعتبار هذا القرار مجرد مناورة سياسية ؟.
في البداية يمكن القول بأن المخاوف السياسية والعلمية المتكررة بشأن طاعة القانون وسلطة الفاعل القانوني لاتخاذ قرار بشأن التشريعات يمكن أن تعزز بسرعة علاقة القانون بالسلطوية.فقد يكون القانون والشرعية مصدرين للسلطة التي تكون دائمًا عرضة لخطر أن تصبح استبدادية بالمعنى الموضوعي ، لأن القانون مترابط مع أشكال السلطة الحكومية ، ولا ينبغي اعتباره غريبًا عنها،بمعنى أن القانون والسياسة مرتبطان، أو أن القانون هو شكل معين من أشكال الممارسة السياسية . وعليه يجب أن يكون واضحا ، كما أن القانون يحكم تخصيص السلطة بين الأفراد والمؤسسات ، والسلطة هي موضوع السياسة،و قرب القانون من سلطة الدولة واستدعاء آليات الدولة القسرية ، حتى في ما يسمى حقول القانون الخاص ، يكفي لدعم الادعاء بأن القانون وسلطة الدولة مرتبطان ارتباطًا وثيقًا. والقانون سياسي أيضًا لأنه يساعد على تحديد تخصيصات السلطة الاجتماعية.
وعليه فان صياغة مشروع هذا القانون وفق هذا الشكل والمضمون يدل بشكل قاطع على أن هناك نوايا أكيدة و توجه عام سائد ونافذ لدى الدولة والحكومة قوامه تضييق مجال ممارسة حرية الانترنيت في المغرب بالنظر إلى ما تشكله من تحد للسلطة ورجال المال والأعمال والاقتصاد النافذة في الدولة ،خاصة وان الانترنيت ساهم في خلق قوة افتراضية مجتمعية بديلة ،وشكل فضاء لتبلور أشكال احتجاجية مختلفة كالدعوة إلى المقاطعة والاحتجاجات وكشف الفساد، وأضحى قوة ضغط حقيقية ومجال رحب للمساءلة والمحاسبة حتى ولو بشكلها الرمزي في ظل غياب مؤسسات الوساطة .
إن مجال السياسة دائما ما يكون موضع استخدام الفعل المناوراتي لتحقيق اكبر قدر ممكن من المكاسب والخروج بأقل الخسائر ،خصوصا في البيئات السياسية غير الشفافة ، والمجال السياسي لا يخضع في مقدراته لعامل الصدفة، بل كل الخطوات تخضع لمنطق التكتيك وحسابات دقيقة و مساومات وتوافقات وراء الكواليس.وعامل الزمن وطريقة تدبيره جد مهمة ليست فقط في علاقات الفرقاء السياسيين أي الصراعات الأفقية ،بل حتى في ظل الصراع العمودي القائم بين السلطة /المجتمع ،والمناورة هي عبارة عن حرب نفسية قد تمارسها الحومة على الرأي العام في مسعى تقويض قدراته وضغوطاته ،ودائما ما تستهدف المناورة السياسية الخداع والتضليل وتزييف الحقائق ،لبلوغ أهداف محددة ،و طريقة تدبير الحكومة لمشروع هذا القانون و ما صاحبها من فوضى وارتباك، فهي لا تخلو من المناورة في سبيل الوصول إلى التضييق على حرية الانترنت الذي يبقى هو الهدف المنشود ،حتى وان تم ذلك بمقتضيات قانونية مخففة عن ما تم تضمينه في مسودة مشروع قانون 22.20 ،والملاحظ أن التكتيك السياسي الذي قد تكون الحكومة لجأت إليه في البداية هو رفع سقف العقوبات وتجريم مجموعة من الأنشطة المرتبطة بممارسة حرية الانترنت كمرحلة أولى، وهي مدركة تماما انه سيلقى معارضة شديدة من طرف مختلف الفعاليات المجتمعية،وإصرارها على عدم سحب المشروع يؤكد ذلك إلى حد كبير بمعنى بلاغ الحكومة في التأجيل يعطي الارجحية للمشكل مرتبط بزمان طرح المشروع وليس بمضمونه،وعليه فان أي نقاش سيكون بعد حالة الطوارئ سيكون بناء على الأرضية المحورية لهذا المشروع ،مما يحمل معه خطر تحصين العديد من المقتضيات القانونية التي تحد من حرية الانترنيت ،بمعنى آخر أن الحكومة تنظر إلى المسألة من منطلق أن التنازلات بخصوص هذا القانون لن تتجاوز السقف المحدد والذي تهدف من خلاله إلى تضييق حرية الانترنت .
لاشك أن معركة محاولة التضييق على حرية الانترنت هي معركة ممتدة في الزمان ولن تقف عند هذا الحد مادام أننا في مواجهة جبهة يضرها كثيرا أن يبقى فضاء الانترنت مجالا مفتوحا يقضي مضجعها بين الفينة والأخرى ،ودون شكك ستبذل كل ما في وسعها وتوظف كل أسلحتها الإيديولوجية والمادية والقانونية في قلب ميزان القوى لصالحها وكسب رهان هذه الحرب لتحقيق أمنها ورفاهيتها على حساب المجتمع ،وهذا يستوجب نوعا من اليقظة المجتمعية وتعبئة كل الفاعلين بهدف مجابهة هذا التواطؤ القائم والثابت،الذي ينثر سمومه دون موجب حق. وبالتالي فالمنطق الصحيح هو سحب هذا القانون وإقباره بشكل نهائي،والتفكير في صياغة مشروع قانون وفق مقاربة تشاركية لا يتعارض مع المبادئ الدستورية المؤطرة لمجال حقوق الإنسان والحريات العامة.
*محلل سياسي وأستاذ جامعي
تعليقات الزوار ( 0 )