قد نختلف في كثير من القضايا السياسية، وقد تتعدد وجهات نظرنا، ولما لا الاختلاف في مواقفنا إلى حد التناقض والتضاد؛ لكن لا يمكن لنا الاختلاف حول ضعف الأداء السياسي لدى الفاعلين في الميدان؛ ولعل هذا الأمر أشار إليه الملك أكثر من مرة في خطبه السامية، ولو بصيغ مختلفة؛ بل نجد أن قادة الأحزاب يقرون بذلك، لاسيما بعد هذه الخطابات الملكية؛ لذلك لم يعد أحد يجادل في هذا الأمر بصراحة، بل حتى بشكل مضمر.
وعليه، وجب علينا إعادة النظر في طريقة اشتغال المنظمات بجميع أنواعها، ومنها بشكل أخص: البرلمان، الحكومة، الأحزاب السياسية، النقابات وجمعيات المجتمع المدني؛ وبالتبع، صار لزاما علينا تعقب أحوال النخب السياسية التي تشتغل ضمن المنظمات السالفة الذكر؛ وقد استعملنا كلمة النخب السياسية باعتبار كل تلك المنظمات تشتغل على الشأن العام ولها تأثير سياسي مباشر وغير مباشر؛ بمعنى أن ممارسة الفعل السياسي لا يقتصر على الأحزاب السياسية فقط، وإنما يشاركها في ذلك بشكل قوي رجال النقابة والمجتمع المدني، فضلا عن وجود شخصيات أخرى لا يسمح المقام للتطرق إليها.
للتذكير فقط، إن تدبير الشأن العام، وممارسة الفعل السياسي عموما، يحكمه مبدأ أساسي، يُجمع عليه القاصي والداني، في الحاضر والماضي، عندنا وعندهم، ويتمثل في سنة التدافع؛ قد يختلف الدارسون في تسمية هذا المبدأ، إلا أنهم مجمعون على ضرورة التدافع والتنافس، ولما التصارع حول من يدبر وكيف يدبر، بل حتى الاختلاف حول الجوانب الرمزية في كثير من الأحيان؛ ولا شك أن هذا يؤدي في ظروف معينة إلى أزمات سياسية تختلف حدتها باختلاف مستوى الذكاء السياسي وتقدير المصالح العليا للوطن بشكل عام، ولكرامة الإنسان بشكل خاص.
وعليه، فإن الاختلاف الحاصل بين النخب السياسية في تقدير كيفية تدبير الشأن العام تتعدد أسبابه؛ ومن المنطقي صعوبة مناقشتها، بل حتى الإشارة إليها، في مساهمتنا هذه؛ إلا أنه سنكتفي التعريج على أمرين، نراهما مربط الفرس كما يقال.
الأمر الأول يتمثل في الإيمان بالفكرة، أو الإيديولوجية كما يحب البعض مناداتها؛ وقد تختلف من شخص لآخر، لكن لا يمكن تصور إنسان على هذه البسيطة يعيش دون الإيمان بشيء ما، ولو كان خرافة من الخرافات؛ وهي تساهم بشكل قوي في تحديد طريقة العيش في الحياة الدنيا، وكذلك أيضا طريقة تدبير الشأن العام؛ وعليه فإن تحديد المبادئ وصياغة الأفكار والخطط يستجيب بالضرورة لما يؤمن به الشخص؛ وذلك عن قصد، إن كان المرء منسجما مع أفكاره ويعرف ما عليه وله؛ أو بدون قصد، إن كان تائها، ولكن، بدون أن يعي، يسعى لخدمة ما يؤمن به؛ وخلاصة القول: على المرء السير وفق ما يؤمن به، بل لابد من الإيمان بشيء يستحق الإيمان به وقادرا على الاقتناع به وإقناع الآخرين، لأنه بشكل أو بآخر يحدد مصيره في الدنيا والآخرة.
أما الأمر الثاني فهو الصراع على التملك، وبالتبع الصراع على السلطة لأنها أحد الأوجه البارزة لتحقيق نشوة التملك؛ وهذه المسألة أشار إليها الفيلسوف طه عبد الرحمن في كتاب “ثغور المرابطة” وكتاب “دين الحياء”؛ وعند النظر في كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة ندرك معنى هذا، حيث نجد أن الإنسان مستخلف في الأرض بعدما قبل الأمانة عن حرية؛ بمعنى آخر، أن تصرف المرء في الأشياء، بل حتى مع غيره، يقتضي التعامل بمنطق الأمانة لا منطق التملك؛ لكن شهوة التملك تمنع الإنسان من تحقيق ذلك، وتراه يصارع الزمن في تملك كل شيء، بما في ذلك تملك أخيه الإنسان وذلك بمحاولة تحديد تصرف الآخرين وفق أهوائه؛ وعليه، نجد أن الإنسان كلما ابتعد عن الفلسفة الائتمانية التي جاء بها الإسلام، كلما سيطر عليه حب التملك، وصار ينافس غيره على ذلك، وقد يصل الأمر إلى تحدي خالقه في ذلك، حتى صرنا نشهد من يقول بملكية الجسد وغير ذلك.
وبالتالي، فإن محاولة فهم وضع النخب السياسية عندنا، في سياق ما أشرنا إليه من أفكار، يفرض محاولة دراستهم من هذه الزاوية، حتى إن انتهينا منها، أصبح بإمكاننا اعتناق مجموعة من الآراء والمواقف تجاههم؛ بل سيمكننا ذلك من اقتراح الحلول التي من خلالها تجاوز ضعف الأداء الذي ابتدأنا الكلام عنه.
وعليه نقول: إن الانطباع الأولي الذي كان نتيجة النظر في مجموعة من القضايا والملفات المعالجة من طرف النخب السياسية، بمختلف تلاوينها، لاسيما بعد إقرار دستور 2011، جعلنا نسجل بعض الملاحظات من وجهة نظرنا التي أشرنا إليها أعلاه:
أولا، يجوز لنا اعتبار العديد من النخب السياسية في مغربنا تعاني من ضبابية في إيديولوجيتا، أو قل بشكل أدق: ضبابية على مستوى اعتناق الفكرة التي تحدد التصور العام للحياة؛ ما أدى إلى خلق ضبابية في الرؤية المستقبلية، سواء على المدى البعيد أو القريب، وربما غيابها بشكل تام عند البعض؛ ولعل هذا هو السبب المفسر لفقدانهم الجرأة اللازمة لأخذ المبادرة في الإبداع، وعدم تأويل مجموعة من الفصول الدستورية في اتجاه ترسيخ فكرة الملكية البرلمانية؛ بل على العكس تماما، نجد أن رؤساء الحكومة الثلاث (بنكيران، العثماني وأخنوش) تخلوا عن مجموعة من الصلاحيات التي خولها الدستور لهم، مع انتظارهم بشكل دائم تدخل المؤسسة الملكية بالتوجيه والإرشاد؛ وهذا في حقيقة الأمر كان منتظرا منهم لأن سقف مطالبهم في الربيع العربي أقل بكثير مما قدمته المؤسسة الملكية حينئذ.
ثانيا: إن الإنسان رغم قبوله الأمانة، إلا أنه مجبول على حب التملك كما أشرنا سابقا؛ وبالتالي، فإن النخب السياسية تحاول بكل ما أوتيت من قوة تملك السلطة، وهذا ما يجعل التنافس قائما بين مختلف الفاعلين، بل يصل الأمر إلى استعمال العنف والاقتتال، وربما سفك الدماء أيضا؛ لكن الضبابية الفكرية التي تخيم على كثير من النخب السياسية، تجعلهم لا يملكون خططا محكمة لذلك، ما يؤثر سلبا على طبيعة التنافس والصراع؛ بل يجعل الصراع قائما على الفتات بعدما تأكدوا من ضعفهم في امتلاك الفكرة والجرأة في اقتراح الحلول وأخذ المبادرة؛ غير أن من يعطي لنفسه الحق في امتلاك الآخرين لا يجد حرجا في اتخاذ جميع الأسباب، وبمعنى آخر أخذ المبادرة بكل جرأة لأنه يرى في تملك غيره تحقيق ذاته.
وعليه، نختم بضرورة التذكير أن القرارات السياسية يقتضي الدفاع عنها امتلاك الفكرة، لأن طبيعتها تحمل بين طياتها نوعا من المغامرة؛ ومن المؤكد أن المرء لا يقدم على المغامرة إلا عند امتلاكه رؤية ثاقبة ممزوجة بكثير من التفاؤل والأمل؛ ولعل هذا الأمر كاف لكي نلحظ ضعف الجرأة لدى النخب السياسية، لأنها تعاني من ضعف على مستوى اعتناق الفكرة والإيمان بها؛ فيما تبقى مسألة التملك رهينة بمدى إيمان المرء بفكرة الأمانة؛ بل كلما كان إدراك ذلك بشكل أدق، كلما أصبح أكثر الناس جرأة للتعبير عن مواقفه دون عقدة النقص أو الإضرار بالآخرين، وذلك بعيدا عن أسلوب العنف لمحاولة السيطرة على الناس أو التنافس على المناصب، وإنما صار الهم عنده التنافس على الرؤى والإبداع خدمة للإنسان أولا وأخيرا.
اللهم ارزقنا المنطق والعمل به.
تعليقات الزوار ( 0 )