لماذا يعتقد الجزائريون ومنذ سنوات بأنهم مستهدفون؟ هل لأنهم يدافعون عن فلسطين ويناصرون الشعوب المظلومة، ويرفضون إقامة علاقات مع الكيان الإسرائيلي مثلما يقول البعض منهم؟ أم لأن هناك قوى تقف أمام طموحاتهم ومشاريعهم في المنطقة؟ وفي الحالتين هل أن إقامة علاقات بين الإمارات والكيان الصهيوني هو ما جعل أبوظبي تصبح مصدر تهديد لهم؟ أم أن مواقفها القريبة من المغرب هي التي جعلتها تبدو بنظرهم على ذلك النحو؟
لا شك في أن هناك كثيرا من اللبس والغموض، وحتى الخلط المتعمد في بعض الأحيان حول تلك المسألة بالذات. وربما كان لافتا ما قام به رئيس مجلس الأمة الجزائري صالح قوجيل، حين بادر في افتتاح جلسة التصويت على قانون المالية الخميس الماضي إلى القول: «عندنا أعداء كثر بين ظاهر ومخفٍ»، من دون أن يمضي أبعد من ذلك، ويكشف عنهم بالاسم، لكن قبلها بساعات قليلة تحدثت سياسية جزائرية معارضة، وفي مؤتمر صحافي وبصريح العبارة عن «الخطر الذي تمثله دولة الإمارات على بلادنا، حيث أعلنت عليها حربا من خلال مخططات إجرامية تحاول تنفيذها لزعزعة استقرارها خدمة للكيان الصهيوني»، على حد تعبيرها.
وبين مواربة الرجل الثالث في النظام الجزائري، وخروج زعيمة حزب العمال المعارض عن الالتزام الصارم بقاعدة التحفظ، بدت الجزائر في منزلة بين منزلتين، فهي لم تعلن بعد رسميا وبشكل مباشر عن وجود تهديد ما من جانب الإمارات، غير أنها تستمر مع ذلك في الإشارة وبشكل مبطن إلى ما تعتبره دورا تخريبيا للإمارات في المنطقة.
ولم يكن من قبيل الصدفة أبدا أنه وبعد يوم واحد فقط من بث الإذاعة الجزائرية الرسمية الثلاثاء قبل الماضي لتقرير قالت فيه، استنادا إلى ما وصفتها بالمصادر المطلعة، إن “الإمارات العربية منحت خمسة عشر مليون يورو للمغرب من أجل إطلاق حملة إعلامية، وحملات على المنتديات الاجتماعية بهدف ضرب استقرار بلدان الساحل»، و»خلق جو مشحون بين تلك الدول والجزائر»، وإن «هناك حسب المصادر ذاتها محور يتألف من الكيان الإسرائيلي والإمارات العربية والمغرب، يعمل على إطلاق حملة تستهدف كلا من دولتي مالي والنيجر، لتسويق فكرة أن الجزائر تمول ضرب استقرارهما»، خرجت لويزا حنون أمينة عام حزب العمال لتصرح، ومن داخل قصر المرادية في أعقاب لقاء جمعها بالرئيس عبد المجيد تبون بأن «الجزائر مستهدفة بسبب مواقفها وتقاليدها وتاريخها ووضعها»، وبأنه لا بد من «التفكير في كل الوسائل السياسية التي تصونها وتحميها من كل التحرشات الخارجية».
من الواضح جدا أن هناك خيطا رفيعا يربط بين الأمرين، فقد أراد الجزائريون أن يبعثوا رسالة ما للتعبير عن المخاوف والهواجس، التي سبق لبعض وسائل إعلامهم أن عرضتها في الشهور الستة الأخيرة. أما الجهة المقصودة بتلك الرسالة فهي لم تكن بالطبع سوى الإمارات، التي قالت عنها صحيفة «الخبر» المحلية الصيف الماضي، وفي عنوان بارز ظهر على صدر الصفحة الأولى لأحد أعدادها، أنها صارت عاصمة «التخلاط»، أي الفوضى، بفعل «إصرار العديد من المسؤولين الإماراتيين على مساعدة المغرب قلبا وقالبا ووقوفهم الى جانب نظام المخزن، لإيذاء الجزائر بأي طريقة»، ولأن أبوظبي زودت الرباط، حسب الصحيفة، «بنظام آخر متطور للتجسس على الجزائر» على حد وصفها.
ولعل أقل ما قد يقال اليوم عن العلاقة بين العاصمتين الجزائرية والإماراتية هي أنها باتت شبه مجمدة. ولم يعد الجزائريون يخفون قلقهم البالغ مما يعتبرونه النفوذ المتزايد للدولة الخليجية في الشمال الافريقي، وفي منطقة الساحل، فيما لا يزال الإماراتيون يلتزمون الصمت ويرقبون في الوقت نفسه الطريقة التي سيتصرف بها الطرف الآخر مع ذلك الوضع، الذي لم يتعد حتى الآن سقف التصريحات والمواقف التي عبر عنها بعض الإعلاميين والسياسيين، في بعض الفترات بشكل غير رسمي.
والسؤال الذي قد يطرحه ذلك هو، ما الذي يمكن أن تعكسه تلك الحالة غير المسبوقة في علاقة الجزائر بدولة خليجية؟ ولماذا يمتنع الجزائريون عن الرد بشكل رسمي ومباشر على ما يصفها جزء كبير من إعلامهم بالتهديدات القوية للأمن القومي الجزائري من جانب الإمارات؟
أليس غريبا أنهم قاموا وفي وقت ما باستدعاء سفيرهم في إسبانيا لمجرد أن حكومة بيدرو ساشيز أقرت بمغربية الصحراء، التي لا يعتبرون أنفسهم طرفا في النزاع حولها؟ فلماذا لم يستدعوا مثلا سفيرهم في أبوظبي في قضية تهمهم مباشرة، للاحتجاج أو حتى للتشاور؟ ولماذا لم يطلبوا توضيحات من السفير الإماراتي المعتمد في عاصمتهم، حول ما ينسبه جزء من إعلامهم على الأقل إلى تلك الدولة الخليجية، من أعمال تمس أمن واستقرار بلادهم؟
ربما سيكون الجواب ببساطة هو، لأن الجزائر لم تر نفسها في حرب أو في مواجهة مع الدولة الخليجية، التي تبعد عنها آلاف الأميال، بل ظلت تعتقد أن لديها فقط مطالب أو مؤاخذات عليها. فهي باتت تتدخل بنظرها في المنطقة بشكل أكبر وأوسع من المعتاد، وهذا قد يمس بشكل مباشر مصالحها هناك وينعكس عليها بالسلب. ولأجل ذلك لم تكن هناك ضرورة في الفترة السابقة على الأقل بالنسبة لها حتى تنقل الخلاف معها من طور التحشيد الإعلامي إلى طور القطيعة الدبلوماسية، ولعلها عملت بالموازاة مع ذلك وفي الكواليس على إقناعها بأن تعدل بعض مواقفها، حتى لا تصبح طرفا في ما تعتبرها خلافات، أو قضايا ثنائية أو إقليمية بحتة، لكن إلى متى سيستمر ذلك؟ وهل طفح الكيل بالجزائريين بعد زيارة العاهل المغربي الأخيرة الى الإمارات، التي جاءت في أعقاب زيارة الرئيس الموريتاني لها في وقت سابق؟
إن المدار الحقيقي للقلق الجزائري من الدور الذي تمارسه الدولة الخليجية في المنطقة، هو كونها أكثر الدول العربية دعما لمغربية الصحراء. ففضلا عن أنها افتتحت قبل ثلاث سنوات قنصلية لها في مدينة العيون الصحراوية، إلا أن قسما مهما من الاتفاقيات التي وقع عليها رئيسها مع العاهل المغربي في زيارته الأخيرة، أوائل الشهر الجاري إلى أبوظبي تحت مظلة إعلان «لشراكة مبتكرة ومتجددة وراسخة بين المملكة المغربية ودولة الإمارات العربية المتحدة» تضمنت عدة مشاريع ضخمة ومهمة في المناطق الصحراوية، من بينها تطوير مطار وميناء الداخلة.
وهذا بيت القصيد، فتدفق الاستثمارات الإماراتية في تلك المنطقة من شأنه أن يكرس فعليا مغربية الصحراء، ويدعم مقترح الحكم الذاتي الذي يعرضه المغرب. وقد أشارت لويزا حنون ضمنيا إلى ذلك، حين قالت في مؤتمرها الصحافي الأخير: إن الوقت حان لاستعادة ما يسمى بالاستثمارات الإماراتية، التي تبرز في استغلال ميناء العاصمة والشركة الوطنية للتبغ والكبريت». بما يعني وبشكل آخر أنه إذ نفّذ الإماراتيون مشاريعهم في الصحراء المغربية فإنهم سيفقدون استثماراتهم ومشاريعهم في الجزائر. يبقى ان مثل ذلك التهديد غير الرسمي هو الرد الوحيد حتى الان على ما يعتبرها الجزائريون حربا إماراتية خفية ضدهم. أما كيف سيتصرفون بعدها؟ فلكل حادث حديث.
تعليقات الزوار ( 0 )