فَقَد الفكر العربي بوفاة المفكر التونسي الكبير هشام جعيط (1935 – 2021) واحداً من أكبر مفكري عصرنا، فَقَد مثقفاً طلائعياً اتَّسمت أعماله الفكرية والتاريخية بكفاءتها النظرية العالية، وهي تواجه أسئلة الحاضر وأسئلة التاريخ العربي في علاقتهما معاً، بمشروع النهضة والتقدّم. ويُدرِكُ المتابعون للجدل الدائر في فكرنا المعاصر، في الثلث الأخير من القرن الماضي ومطالع القرن الجديد، المواقف والخيارات التي ركَّب الراحل في أعماله، وهو يساهم بِحسٍّ تاريخي نقدي في تشخيص جوانب عديدة من صور تأخّرنا التاريخي. كما يدركون عمق مساعيه الرامية إلى المساهمة في بناء أنوارٍ عربيةٍ، تتيح للعرب إمكانية مجابهة مصيرهم التاريخي.. ومنذ مصنَّفه الأول في موضوع “الشخصية والمصير العربي الإسلامي” سنة 1974، إلى كتابه الأخير “التفكير في التاريخ، التفكير في الدين” (2020)، لم يتوقف هشام جعيط عن البحث والنظر في قضايا تتصل بالفكر والدين والاجتماع والتاريخ، وتنفتح على مكاسب عصرنا وتجاربه في التحديث والتغيير، محاولاً قراءة التحولات الجارية في العالم العربي وفي العالم.
عندما نقف اليوم أمام سِجِلِّ مؤلفاته خلال العقود الخمسة الماضية، نجد أنفسنا أمام أبحاث رائدة في الفكر العربي والتاريخ الإسلامي، أبحاث في السياسة والثقافة والمجتمع، وقد كُتبت استناداً إلى مرجعيات وخيارات نظرية وتاريخية مُحدَّدة، طوَّر فيها الراحل طُرُقَ (وأساليب) التفكير في أسئلة النهضة والمستقبل العربيين. ومن “أوروبا والإسلام” (1978) إلى “الفتنة، جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر” (1989) ثم “أزمة الثقافة الإسلامية” (2000) على سبيل التمثيل، نجد أنفسنا أمام قضيةٍ واحدة، يتعلق الأمر بجهودٍ في النظر متصلةٍ بأسئلة التأخر التاريخي العربي في تجلياته السياسية والثقافية، مع إعلاءٍ واضحٍ لأهمية السُّمُوِّ الفكري في التاريخ. وقد اختار، في العقدين الأخيرين، مواجهة الوحي والنبوة، فأصدر ثلاثيته في السيرة النبويَّة: “الوحي والقرآن والنُّبُوَّة”، (1999)، “تاريخية الدعوة المحمَّدية” (2007)، “مسيرة محمَّد في المدينة وانتصار الإسلام” (2015).. اقترب فيها من الوحي، مستعيناً برؤية أنوارية وعقلانية تفهُّميَّة، منطلقاً من اعتبار أن الوحي “جدلٌ بين أعماق الضمير المحمَّدي، وهو الإله الدَّاخليُّ، وبين الإله الخارجي فيما وراء العالم”.
الناظم الأكبر لمجمل أعمال هشام جعيط وآثاره في فكرنا المعاصر يتمثل في مساعيه الهادفة إلى المساهمة في بناء ما يُسعفنا بإضاءةٍ جديدةٍ لماضينا وحاضرنا، إضاءة تُكافئ طموحاتنا النهضوية في التحديث. ففي كتابه “الشخصية والمصير العربي” ثمّة مفكر يكتب بطريقة لا علاقة لها بالمتداول في المقاربات التي تُعْنَى بأسئلة الفكر والنهضة العربية وقضاياهما، فقد جمع في المصنف المذكور بين فنون في الكتابة تجمع بين التاريخ والفكر والسياسة والحضارة، حيث يقف القارئ على سِجِلٍّ من الأسئلة المتعلقة بتونس، وأخرى ترتبط بقضايا التقدّم العربي وتجديد النظر في الإسلام. وهو لا يتردّد، عند اقترابه من أسئلة السياسة والتاريخ والنهضة، في كشف كثير من معاناته وتوتُّره، الأمر الذي يوضح كيفيات انخراطه في بناء أسئلة النهضة التونسية والعربية.
ينتقل هشام جعيط، وهو يفكر في الشخصية والمصير العربيين، من الفكر إلى التاريخ إلى الإسلام في الحاضر والمستقبل.. يكتب مباحثه بكثيرٍ من المعاناة، إنه يغرّد خارج المألوف، ويتغنَّى بالمستحيل، مُعتبراً أن الاكتفاء بوضع العرب اليوم أمام خيار الإسلام أو الحداثة يُدخلهم في جدلية البؤس، إنه يمنعهم من رؤية الأفق العريض المُشْرَع أمامهم.. وقد حَرِص في مصنّفه “أزمة الثقافة الإسلامية” على توسيع وتنويع آخَر العرب، فاقترب من التقدّم الياباني لينحت مفهوم التقليد الأكبر، وليتجاوز أسطوانة “نقد مادية الغرب وحداثته”. كذلك حاول الاقتراب من الفكر الصيني، وذلك لإيمانه التاريخي القوي بأن مشروع النهوض العربي أكبر من الزوج إسلام/ غرب، إن ممكنات الإبداع والتجاوز في تصوُّره ليست مرهونةً بسقفٍ معيَّنٍ من النظر.
بدأ الراحل زحزحة معالم الزوج المذكور، في مصنّفه الثاني “أوروبا والإسلام”، حيث توقَّف أمام مجموعة من المعطيات والأحكام التي منحته إمكانية الذهاب بعيداً في موضوع تفكيك ثنائية إسلام/ حداثة. إن تمجيده في مقدمة كتابه “الشخصية والمصير العربي الإسلامي” بعض مواقف عبد الله العروي وخياراته، وحرصه على نشر قراءته كتاب العروي “أزمة المثقفين العرب” (1974) كملحق في “أوروبا والإسلام”، وتبجيله في الفقرة الأخيرة من مقدمة كتابه الأول لشخصية النبي محمد ورسالته، وذلك بجانب دفاعه عن الحداثة والتنوير، وتقديره الفكر الخلدوني ونص “أقْوَم المسالك في معرفة أحوال الممالك” لخير الدين التونسي، وكذلك تثمينه الوطنيين التونسيين والأدوار والإصلاحات التي أنجزها الحبيب بورقيبة بعد استقلال تونس، كل هذه الأمثلة تضعنا أمام ثراءٍ وكثافةٍ في نصوصه.. وقد جاءت أغلب المواقف التي ذكرت أعلاه في صورة أحكامٍ وشطحات، إنه يكتب متسائلاً، يَتغنَّى بطموحاتٍ ونصوصٍ ومواقف، ويشكك في مواقف وخيارات أخرى.. إنه لا يعتبر أن هناك حداثة غربية، ولا يقبل أحاديث بعضهم عن حداثة إسلامية وأخرى صينية وثالثة هندية ورابعة أفريقية، فالحداثة، في نصوصه وفي جميع أبعادها، واحدة، وهو يذهب إلى أبعد من ذلك، معتبراً أن الحديث عن الخصوصيات مجرّد “نفاق كبير وتضليل عظيم”.
تستحضر تصوُّرات جعيط ومواقفه مظاهر التمزّق والتوتر الحاصلة في الذات العربية، وهو يحرص على مواصلة استراق السمع لمختلف نداءات الروح لحظات أفولها وصعودها، مفضلاً عنف توتّره الوجودي على عنف القطائع الْمُعْلَنَة، والحاصلة في التاريخ. إن وضوح الصورة والتصوُّر في أعماله يتراوح بين عتبة الخيار السياسي التاريخي وعتبة التأمل النظري المفتوح على مجال التفكير الذي يروم الإمساك بالموضوعات المفكّر فيها، في عمقها الجامع بين التاريخي وما يتجاوزه. لهذا السبب، ينظر إلى الإسلام بعين وضعية وتاريخية، ويفكّر فيه أحياناً بلغة المتصوّفة وشطحاتهم. وقد يرى بعضهم في المعطى النصّي المتضمن في بعض أعماله نوعاً من التناقض، وقد يبلغ التناقض مداه في إيقاع الكتابة الحاصل في بعض نصوصه، في المفردات والجمل العارضة والأحكام القطعية القوية. كما نجد ذلك، على سبيل المثال، في أزمة الثقافة الإسلامية، حيث يستوعب هذا الكتاب كثيراً من صور التوتر في ملفوظاته، وفي إيحاءات ما يكتب، وتبلغ درجات معاناته في الكتابة مقاماتٍ عالية، تعكس، في بعض إشاراتها، كثيراً من مظاهر التمزّق التاريخي في واقعنا العربي، وفي علاقتنا بالآخرين.
تعليقات الزوار ( 0 )