في عالم موازٍ، تردّد قادة “حـ.ـماس” في منح الضوء الأخضر لجنود المقاومة لمهاجمة إسرائيل. فكّر يحيى السنوار ومحمد الضيف أكثر من مرّة قبل أن يحسما قرارهما ويؤكدا رفضهما لمقترح اقتحام غلاف غزة ومهاجمة المستوطنات، بهدف احتجاز رهائن لاستعمالهم كأوراق تفاوضية لتبييض سجون الاحتلال الإسرائيلي من الأسرى.
لم تحصل أي هجمات في الـ 7 من أكتوبر من سنة 2023، فأنقذ “تأثير الفراشة” السنوار وحسن نصر الله، وإسماعيل هنية، وأنجى ساكنة غزة من الموت، وأشرقت شمس أكتوبر على صباح القطاع البارد، ولم تُدم الصواريخ قلوب الأرامل والثكالى، ولم يترك الدمار جثث الأطفال والنساء فريسة للكلاب في العراء. وعاش الكل في سلام ووئام!
لا يمكن لعاقل، حتى أولئك الذين يلومون “حـ.ـماس” على “تهورها” في تنفيذ هجمات 7 أكتوبر، أن يتوقع أن سيناريو “عاش الكل في سلام ووئام” كان سيحصل. ما كان سيقع لو أن هذا الحدث لم يكن، مختلف. الآن دعنا من “المزاح الوهمي”، ولنتخيل ما كان سيحصل، بناء على معطيات واقعية، وأحداث حقيقية.
لم يشهد السابع من أكتوبر، أي جديد يُذكر. أشرقت الشمس كعادتها، وزقزقة العصافير فوق أغصان الزيتون، وجَال السكان وسط الشوارع، ولعب الصبية في أزقة المدينة المحاصرة. لم يُهاجم مقاتلو “حـ.ـماس” مستوطنات الغلاف، ولم تُفتح الثغرات في السياج، ولا طاف المقاومون بسياراتهم داخل عسقلان وسديروت. لا رهائن، لا صواريخ، لا صدمة كبرى. ومع ذلك، لم يتأخر الطيران الإسرائيلي عن الظهور، واستمرت “تل أبيب” في القتل.
كان شهر أكتوبر لسنة 2023، قد بدأ باقتحام جديد لباحات المسجد الأقصى، قاده إيتمار بن غفير بحراسة أمنية مشددة، تخلله طرد للمصلين وتدنيس للمكان. في جنين، اغتيل شابان داخل سيارة مدنية، وقال الجيش إنهما “كانا في طريقهما لتنفيذ عملية”. لم يكن هناك أي دليل، فقط صور لسيارة ممزقة وشهادات جيران مذعورين.
في نابلس، قُتل الطفل عدي الصوالحة برصاصة في الرأس وهو في طريقه إلى المدرسة. انتشرت صور دمه على الرصيف، وغابت العدالة كالمعتاد. العالم اكتفى ببيانات “القلق”، ولم يكن أحد ينتظر أكثر من ذلك. “لم يتغير شيء. نُقتل يوميا”، يقول أبو وسيم، ساكن مخيم نور شمس الذي حُوّل إلى ركام خلال غارة استمرت 15 ساعة، أسفرت عن مقتل سبعة فلسطينيين، وتدمير البنية التحتية، بل وقصف منزل بطائرة مسيّرة.
في الشهور اللاحقة، استُشهد أكثر من 582 فلسطينياً في الضفة، بحسب موقع “ميدل إيست آي”، فيما تؤكد وزارة الصحة أن العدد تجاوز 650، بينهم أكثر من 120 استشهدوا في هجمات المستوطنين، الذين يزدادون شراسة وعددًا وتسليحًا، مع دعم حكومي صريح يقوده بن غفير وسموتريتش.
“يبدو أن غزة ما تزال على قائمة الانتظار”، قالها شاب في خان يونس وهو يشير إلى طائرة استطلاع لا تغيب عن السماء. “لم نطلق شيئاً، ومع ذلك لا تغيب الطائرات”. كانت الغارات على القطاع نادرة، لكن التهديدات كانت حاضرة. تصريحات متتالية من وزراء الاحتلال تلمّح إلى “ضربات استباقية” و”ضرورة الردع”، والأنباء الإسرائيلية تتحدث عن “هدوء مريب” و”نية خبيثة” في غزة، رغم أن الوضع لم يتغير منذ شهور.
في الضفة الغربية، اعتقلت إسرائيل أكثر من 10 آلاف فلسطيني، أغلبهم في حملات ليلية عنيفة، تحوّلت إلى مداهمات منظمة وتخريب للمنازل وضرب وتعذيب وتهديد لعائلات المعتقلين، وفق تقرير مؤسسة “الضمير”. عشرة معتقلين توفوا في السجون الإسرائيلية قبل نهاية مارس، بعضهم تحت التعذيب، وبعضهم في ظروف احتجاز مهينة ومهملة.
أما الاستيطان، فقد قفز إلى مستوى غير مسبوق. نحو 23.7 كيلومترًا مربعًا من الأراضي صودرت خلال سنة واحدة، وهو رقم يتجاوز ما تمت مصادرته في عشرين سنة ماضية مجتمعة. وجرى تشريد 3244 فلسطينياً بعد هدم 1429 مبنى، وارتفعت وتيرة بناء البؤر الاستيطانية الجديدة بشكل ممنهج، خاصة في تلال جنوب الخليل ووادي الأردن.
“الجيش والمستوطنون باتوا يعملون كجسم واحد”، يقول ناشط من نابلس. “نرى الجنود يحمون المستوطنين وهم يحرقون بيوتنا، ثم يُقال لنا إن الأمن الإسرائيلي يعمل ضد ‘التطرف”. حتى القدس لم تسلم. الاقتحامات تواصلت لباحات المسجد الأقصى، يقودها بن غفير نفسه أحياناً. ومن لم يُقتَل في الضفة، عاش مهدداً في بيته في القدس أو رام الله أو أريحا.
لم يكن حزب الله لينخرط في جبهة الإسناد، ولا الحوثي تدخل، وكانت إيران ستبقى بعيدةً وتكتفي بالتصريحات، دون أن تجد نفسها طرفاً في الحرب. كان الفلسطينيون سيموتون في الضفة والقدس دون دعم، ودون مقاومة وازنة. كانوا سيودعون الحياة بالسكين والحجارة.
كان الفتى في بلعين سيقف في وجه الجرافة بيده العارية، والطفل في بيت دجن سيركض بين أشجار الزيتون حين يسمع صوت قنبلة صوتية، وربما تُكسر قدمه تحت هراوة مجندة تصرخ عليه بالعبرية. لا حزب الله سيتحدث عن وحدة الساحات، ولا الحوثي سيعلن استهداف السفن، ولا صواريخ تُطلق من العراق أو الجولان.
لم تكن هناك حرب إقليمية تلوح، ولم تكن لتُقصف إيران، ويصبح برنامجها النووي على شفا الانهيار. خنق داخلي صامت، ومجتمع دولي يرفع حاجبيه ثم يخفض عينيه. جبهات الإسناد هادئة… والمجازر ضد الفلسطينيين مستمرة، لأن إسرائيل قررت منذ زمن بعيد، أن “الردع” لا يحتاج إلى صواريخ. يكفي أن تكون فلسطينياً في هذا المكان، كي تُدرج في قائمة الأهداف. في غياب 7 أكتوبر، لم يكن هناك رهائن، لكن السجون امتلأت.
كانت الكاميرا ستُبعد عن بيت لحم، عن نابلس، عن خيام الرعاة في مسافر يطا، حيث يطرد الجنود الأطفال من مدارسهم بحجج أمنية، وتُهدم المساكن دون إنذار. كانت الصحافة ستجد الوقت لقصص أخرى، عن روسيا وأوكرانيا، أو باكستان والهند، أو الصراع الجمركي الأمريكي الصيني، وستُدفن أسماء شهداء الضفة، في هوامش التقارير.
لكل ذلك. فعلاً، تجنب هجمات 7 أكتوبر، كان سيجعل الفلسطينيين يسقطون في صمت، واحدًا تلو الآخر، في مشاهد عادية لا تثير الانتباه… يموتون كمن يموت تحت أنقاض صمت العالم. لو لم تقع السابع من أكتوبر، لما تغيّر شيء… سوى أن العدوان مرّ بهدوء، دون مقاومة، دون عدسات، دون شهود.
تعليقات الزوار ( 0 )