Share
  • Link copied

“نوضي أمِّي فين تجلس مراتي”… ويجلس أولاد العم موشي دايان، وغولدا مائير، وآرييل شارون!

يقول المثل الشعبي المغربي السائر: “نوضي أمي فين تجلس مراتي”.

في ظاهره، كلام عابر من يوميات الأسر المغربية، لكن من يتأمل في عمقه، يكتشف أنه مرآة لزلزال ثقافي واجتماعي يهز أركان القيم، ويقلب موازين البر والولاء على رأسها.

الأم هي رمز الجذر والحنان والتضحيات، وهي الهوية الأصلية للكائن البشري، والأم هي الانتماء في المدلول الواسع للمعنى، والأم هي الأمومة والأمة والأرض واللغة والثقافة بمفهومها العام، اللغة الأم، والوطن الأم، والرمز الأم، هي الهواء الذي نستنشقه، وهي الهوية التي بها نحيا!

ومن أراد أن يهين ثقافة وهوية وانتماء وقيمًا عند القوم، فليتوجه إلى الأم مباشرة، هكذا قال الشاعر العربي في هجائه لقوم شيمتهم البخل:

قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم * قالوا لأمهم بولي على النار

والهجاء هنا لا يتوجه إلى الأم كما يظهر في أول قراءة، بل يتوجه إلى نقد منظومة القيم عند القوم، قيمة البخل في مقابل الكرم، ومن شدة بخل القوم أنهم استعاضوا ببول أمهم عوض الماء، فأي بخل أعظم من هذا البخل، والناس تتفاخر بينها بالكرم!

نوضي أمي فين تجلس مراتي” هو مثل شعبي مغربي لا نعرف من ألفه، ولا من أطلقه لأول مرة، لأن الأمثال والنكات والحكم يؤلفها المجتمع وليس الفرد، لأنها تستضمر وتستكنه تجارب المجتمع وتختزل فلسفته في الوجود.

نوضي أمي فين تجلس مراتي”… مثل شعبي مغربي يعكس مفارقة صارخة في مضرب الأمثال، فالأم التي حملتك تسعة أشهر، وسهرت الليالي من أجل راحتك، وغسلت ملابسك الوسخة، تُطرد من المكان لتحل مكانها الــ”مراتي” بلمعة العيون وتلميع الشفتين!

هذه المفارقة الصارخة والصادمة تحولت عند البعض إلى سياسة وطنية!

هذا المثل الشعبي المغربي السائر، الذي كان دوما يُقال بنبرة نقدية، صار اليوم استعارة صارخة، ونبوءة سياسية تختزل ما يجري اليوم على مستوى أوسع وأعمق:

خيانة الذاكرة الوطنية، وتفكيك رموز الهوية، باسم الحداثة والتطبيع.

هذا هو تفسير المثل المغربي “نوضي أمي فين تجلس مراتي” في أبهى صورة بلاغية قاتلة:

الأصل يُقصى، والوافد يُكرَّم.

الذاكرة تُمحى، والاحتلال يُحتفى به.

هكذا قالها، ليس حبا في الحسين وإنما كراهية في اليزيد.

نوضي أمي فين تجلس مراتي”.

بكل برود قالها وكأنها شيء عادي، وكأنها قاعدة اجتماعية صاغها بول باسكون وأكدها بودربالة.

وكأنها تطور طبيعي لمجتمع يزحف نحو الحداثة، وهو غافل أن الحداثة محمولة فوق ثقافته الشعبية، كما يصور ذلك البيت الشعري:

كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ ** والماء على ظهرها محمول!

نوضي يا أمي فين تجلس مراتي” مثل تحول إلى فلسفة وجود في زمن الإبادة والهمجية والتطبيع مع القتلة.

الأم يجب أن تنهض، وكأن الأم مكانها ليس هناك، وكأنها فضلة، وكأن الأم أصبحت ممنوعة من الإعراب، وكأن الأم حجرة عثرة في طريق الحداثة.

قالها المسخوط دون أن يرفّ له جفن، ودون أن يخاف من البرق والرعد، ودون أن يخاف من عقوق الوالدين.

ومن لعنات الذاكرة

حتى الشوارع الآن فيها “نوضي أمي فين تجلس مراتي”، حتى اللافتات.

حتى أسماء الأحياء، وحتى الجدران.

“نوضي أمي فين تجلس مراتي” وتجلس غولدا مائير وموشي دايان وشارون!

نوضي يا أمي” نحن الآن في زمن جديد.

في زمن يُرفع فيه اسم حمان الفطواكي ويُقترح مكانه اسم موشي دايان.

وتُمحى أسماء الشهداء ونعوضها بأسماء الجنرالات الدمويين… وبدون خجل.

وبدون أن يقول أحد: هذا عيب.

ولا أحد يتدخل ليقول: هذ الشي حشومة.

ولا أحد يصرخ: راكم كتوسخو البلاد وتتغتالو الذاكرة.

قالها أمام الأشهاد، والشهود، والشهداء والأحياء،

أيام زمان، كان الخائن يضع نظارات سوداء.

يمشي في الظلام، ويتكلم همسًا، لأنه كان يخاف من كلام الناس، ويخاف من الحب الوطني.

أما الآن ؟

فالخيانة في وضح النهار، الخيانة تُمارَس على المباشر، الخيانة يُعبر عنها بالفخر، وبالمقترحات الرسمية، وعبر رسائل إلى المجالس المنتخبة، رسائل تحتج وتطالب، وتتساءل:

لماذا لا نكرم غولدا مائير؟

وتقول: إن عبد الكريم الخطابي، عفا الله عنه.

وتقول أيضا: إن حمان الفطواكي لا أحد يتذكره.

وتؤكد: إن موشي دايان كان فنان حرب.

ولا نستغرب إن غلبنا الوسن وأخذتنا سنة من النوم، واستيقظنا في الصباح ووجدنا أن “زنقة الشهيد” أصبحت “زنقة المتعاون”، وأن “حي الاستقلال” صار “حي صفقة القرن”، وأن “صومعة حسان” تحولت إلى “مركز الديانة الإبراهيمية العالمية”، وأن “جامعة محمد الخامس” آلت إلى “جامعة بن غوريون” المتخصصة في تهويد الذاكرة!

ولا غرابة في ذلك، لأن من يبيع تاريخه، قادر على بيع أي شيء، حتى عيد الفطر سيصبح طقسا إسرائيليا صالحا للبيع بسعر دم طفل فلسطيني!

ولا نتعجب إن وجدنا أن الوطن نفسه صار شيئًا آخر، أصبح نسخة معدلة بلا ذاكرة، بلا كرامة.

بلا أم!

نوضي أمي فين تجلس مراتي

لا… وألف لاااااا!

لأن الأم إذا نهضت، فهي تنهض فقط لتُسقط طاولة المقامرة والمؤامرة!

ولأن هذا البلد الأمة، بلد الشرفاء والأولياء، لا ينهض إلا إذا جلست الأم في مكانها!

والسلام على من رأى منكم مسخوط أمه وبصق في وجهه… وتبول عليه.

على سبيل الختم

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه، لا يدعو إلى الكراهية، بل هو دعوة للتفكير يا أولي الألباب قبل فوات الأوان.

أنا داخل سوق راسي

Share
  • Link copied
المقال التالي