لا يُسمح للفرد في منطق الدولة الحديثة، أن يحتج خارج الأطر القانونية والمؤسسات المعترف بها، لكن ما قيمة هذا الشرط حين تصبح المؤسسات نفسها فارغة من المعنى؟ أو حين تتحول من جسور للتمثيل إلى فخاخ رمزية لتدجين الوعي؟ فكيف نطلب من المواطن المغربي أن يُعبر عن آلامه من داخل قنوات مشروعة بينما هذه القنوات تمارس دور المُصفي الرمزي لمطالبه وتعيد إنتاج تهميشه تحت غطاء الشرعية الشكلية؟
لقد تآكلت الوسائط بين المجتمع والدولة في المغرب، فالأحزاب السياسية التي يُفترض أن تُمثل الشعب تحولت إلى كراكيز ناطقة بلسان السلطة، حيث أضحت تُطبع مع الاستبداد وتؤثث مشهد الديمقراطية الزائفة وأما النقابات فاخترقت أو أُفرغت من مضمونها النضالي، وأما الإعلام فصار امتدادا لـلمقدس السياسي أكثر من كونه مرآة للمجتمع، وما قاله إتيان دو لا بويسي في خطاب العبودية الطوعية لا يزال حيا، أن الناس يُمارسون الخضوع حين يُقنعون أن لا بديل وأن الطاعة أهون الشرور.
ذلك أن السلطة في المغرب لم تعد بحاجة إلى القمع الصريح فالتدجين الرمزي يقوم بالمهمة بأناقة، حيث يُطلب منك أن تعارض ولكن داخل إطار مُحكم لا يُزعج بنية الحكم وأن تصرخ ولكن في فراغ مؤسساتي محسوب، وهذا هو العنف الناعم كما حدده بيير بورديو بأنه حين تُنتج السلطة آليات الهيمنة داخل اللغة وداخل المدرسة وداخل الحفلات العامة وداخل المؤسسات التي يُفترض أن تحمي التعبير لا أن تروضه، فالعقد الاجتماعي الذي كان في الأصل اتفاقا على التنازل عن العنف مقابل القانون وعن الرغبات الفردية مقابل الإرادة العامة، أصبح في السياق المغربي إملاء من طرف واحد، وهو أن المواطن يتنازل والدولة تحتكر، والمواطن يصمت والدولة تُقرر.
وفي هذا السياق لا يبدو أن السلطة تحارب حرية التعبير فقط بل تحارب الحق في إنتاج المعنى ذاته، ذلك أنها تخشى من المواطن الذي يفكر، والذي يربط بين القهر الرمزي والقهر المعيشي وبين الخطاب الرسمي وواقع التفاوتات الطبقية وبين شعارات التنمية ومؤشرات البطالة والهشاشة، فالمعارضة الحقيقية في نظر السلطة ليست تلك التي تُشارك في حفلة التزييف الديمقراطي، بل تلك التي تطرح أسئلة على منطق الحكم نفسه وتسائل رموزه وتُربك لغته.
وإذا كان المواطن الصالح هو من يشتغل في حدود ما تسمح به بنية النظام، فإن المواطن اليقظ الذي يُمارس السياسة كمسؤولية أخلاقية وشكل من أشكال الوعي التاريخي، يُتهم بالتحريض أو يُقصى، أو يُحول إلى ملف أمني والنتيجة أن الإرادة الجماعية تصبح مستحيلة حين تُخصخص آليات إنتاجها، وحين تُختزل المشاركة في استفتاءات شكلية تُغلف الهيمنة بورق ديمقراطي شفاف.
وحينها تتحول رمزية الفعل إلى ساحة معركة كما نبّه بيير بورديو، فالرموز ليست محايدة بل أدوات للصراع، ومن يملك سلطة التعريف يملك سلطة الإقصاء ومن يحدد ما هو مشروع وما هو انحراف، ومن يضع سقف الممكن والمسموح هو من يحتكر السلطة الرمزية، لذلك فالمغرب لا يعيش فقط أزمة اجتماعية أو اقتصادية بل يعيش أزمة معنى وأزمة تمثيل وأزمة اعتراف، وحين يغيب الأمل لا يولد التغيير بالضرورة كثورة بل ككفر بالصوت وبالانتظار وبالوطن.
وفي هذه اللحظة وفي ظل هذا السياق المسدود لا يبدو أن الاحتجاجات تأخذ دوما الشكل السياسي التقليدي، بل كثيرا ما تُعيد إنتاج نفسها في الثقافة والفن والسلوك اليومي، وهنا يبرز مثال الغراندي طوطو ليس كحالة فنية فقط بل كظاهرة اجتماعية محملة بالمعاني السياسية والرمزية، فما بدا كحفل صاخب في الرباط هو في العمق اختراق رمزي لمجال عام كان مُسيجا بأشكال تعبير مأذون بها، فنصف مليون شاب وشابة تقاطروا لا فقط للاستماع بل لأداء طقس جماعي من الغضب والتفكك والهُوية الهشة، فيما طوطو لم يكن مغنيا فقط بل جسدا سياسيا بلغة فوكو يتحدى منطق السلطة ويعيد تشكيل خرائط المعنى.
فحين نصغي للراب المغربي لا نسمع فقط كلمات نابية بل نسمع تمردا لغويا وسوسيولوجيا ضد احتكار الفصحى وضد أخلاق السلطة وضد منطق الخطاب الرسمي، فهنا تتحول اللغة إلى ساحة مقاومة، فالراب ليس صوتا موسيقيا فقط بل أداة للتموقع في الفضاء العام كما قال ميشال فوكو في تحليله لاقتصاد الخطاب، حيث كل قول هو تموقع في حقل قوى وكل صمت هو أيضا خيار سياسي، فحين يُخرق الصمت الجماعي بالصرخات العالية والكلمات الخادشة فإن ذلك لا يُعبر فقط عن انحراف بل عن تمزق في النسيج الرمزي الذي ظل يربط الدولة بالمجتمع.
فالراب في المغرب ليس بدعة محلية بل امتداد لسياق عالمي حيث الهامش يُعيد صياغة مركزه الرمزي، كما حدث في فرنسا حين خرج الراب من ضواحي باريس وليون ومرسيليا من غضب المهاجرين وأبناء الطبقات الدنيا ليصبح خطابا احتجاجيا مشحونا بالكرامة المهدورة، وهناك كما هنا لم يكن الراب مرحبا به في البداية لكنه بمرور الزمن أصبح أداة مزدوجة، فهو أداة مقاومة وأداة تسويق وهنا تكمن المفارقة كما قال ماركوز أنه حين تتحول أدوات الرفض إلى سلعة يصبح التمرد نفسه جزءا من آليات السيطرة.
إن السلطة الذكية لا تُخضع التمرد بالقوة بل تحتويه، فطوطو الذي كان سلگوطا في خطاب سياسي قدحي صار نجما على منصات الدولة ومهرجاناتها، وصار اسمه يتردد في الإعلام العمومي ليس لأن السلطة تؤمن بحرية التعبير بل لأنها أدركت أن الرأسمال الرمزي يمكن تحويله إلى استثمار في شرعية شكلية، وهكذا يُحول السوق الصرخة إلى شعار والغضب إلى منتج والتمرد إلى حملة دعائية.
فحين يُحتفى بمن يلعن المؤسسات في نفس اللحظة التي يُقصى فيها من يسائلها عقلانيا نكون أمام بنية سلطوية تُفضل الصراخ الفج على النقد العاقل، لأنه يمكن تدجينه وتدويره بسهولة، فالراب إذن ليس خطرا على المجتمع كما يدّعون بل هو مرآة لخطورة الطريق الذي سلكه المجتمع حين تخلّى عن شبابه وتركهم يواجهون مصيرهم الرمزي والاقتصادي وحدهم، وكما قال ألبير كامو أن التمرد هو النفس الأول للإنسان الذي لم يعد يتحمل الصمت والراب المغربي بهذا المعنى هو نفس جماعي أخير قبل الاختناق.
ولا يمكن فهم ظاهرة طوطو إلا في ضوء الفشل البنيوي للدولة في إدماج الشباب داخل مشروع وطني ذي معنى، فحين يعجز النظام التعليمي عن منحهم الأدوات والنظام الاقتصادي عن منحهم الأفق والنظام السياسي عن منحهم الصوت، يبقى المايكروفون هو المنفذ الوحيد نحو الاعتراف، ذلك أن الشتيمة ليست خروجا عن القيم بل عن الإقصاء والصخب ليس انحدارا في الذوق بل علامة على قطيعة رمزية.
فالصارخ طوطو لا يُفسد الذوق العام بل يكشف أن ذوقا جديدا يولد ولا يفسد الأجيال بل يكشف أن جيلا قد انكسر ولم ينتبه إليه أحد، ولا يُهدد الاستقرار بل يكشف هشاشة الاستقرار القائم على صمت مُر، وكما كتب آلان تورين أنه حين تعجز المؤسسات عن احتضان الطاقات الاجتماعية الجديدة فإن هذه الطاقات ستخلق مؤسساتها البديلة ولو كانت مجرد منصات في الهواء.
فما نحتاجه ليس الإدانة بل الفهم.
تعليقات الزوار ( 0 )