على مدار نحو شهرين، اتّجهت أنظار شعوب الغرب ومعها شعوب العالم كله، إلى الشرق، وركّزت عدسة النّفس والرّوح على ممارسات الجيش الإسرائيلي ضد المدنيين والأطفال العُزَّل في قطاع غزة، وعلى مواقف مسؤولي الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الأوروبيين تجاه هذه الممارسات الدموية والوحشيّة، وتأكدت جميعاً أنها تنطلق من معايير مزدوجة، تتناقض مع مبادئ القانون الدولي الإنساني، وتضرب بقواعد حقوق الإنسان عرض الحائط، وشعرت هذه الشعوب بأن هذه الازدواجية تُنذر بانهيار كامل لمنظومة الغرب القيميّة، فخرج المواطنون في دول أوروبية عدة في مظاهرات، بعضها “حاشدة”، وتحدوا محاولات حكومات دولهم لمنع التظاهر لأسباب أمنيّة، لعل وعسى أن تنقذ منظومة القيم الغربية من الضياع، قبل فوات الأوان. فعلى الرغم من أن ثنائية القانون الدولي الإنساني وازدواجية المعايير تعد أمراً لا مفر منه، يظهر على سطح الأحداث وينعكس على المشهدين السياسي والإعلامي المصاحبين لها، سواء كانت هذه الأحداث حروباً أو مجرد نزاعات مسلحة، مادامت هناك مصالح متباينة للدول والتكتلات المتفاعلة مع الحدث، إلا أن هذه الثنائية في حرب إسرائيل على قطاع غزة، التي اندلعت عقب عملية طوفان الأقصى، وركَّزت بشكل غير مسبوق على استهداف المدنيين، بدمٍ بارد، وصاحبتها ردود فعلٍ أمريكية وأوروبية منحازة وينم بعضها عن تمييزٍ واضح، قد تعدَّت حدود المنطق والتصور وأثارت استياءَ وغضب الكثير من الدول والشعوب، وكشفت للعالم كلّه زيف ازدواجية منظومة القيم الأخلاقيّة الغربية وحقوق الإنسان، وأسقطت ورقة التوت الأخيرة عن عورات العالم الغربي وسوءاته، وعزَّزت شكوكاً بأن تلك المنظومة القيميّة والأخلاقية التي يتباهى بها الغرب ما هي إلا أداة وغطاء للتبرير لأنفسهم والتغرير بغيرهم، ودعم الحليف على حساب الخصم، متى اقتّضت المصلحة ذلك، ولعل الفارق الشاسع بين مواقف الغرب تجاه مقتل المدنيين والأطفال في الحرب الأوكرانية ومواقفه من مقتل الأطفال والنساء في الحرب على قطاع غزة خير دليل على ذلك، إذ وصفت واشنطن ما يفعله الجيش الروسي بجرائم حرب، وسعت لمحاكمة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أمام المحكمة الجنائية الدولية، وفي المقابل غضت واشنطن الطرف عن عشرات المجازر الإسرائيلية في قطاع غزة، وتسوية أكثر من 70% من منازله بالأرض، وقصف عددٍ من المشافي والمدارس، بما فيها تلك التابعة للأونروا (منظمة تتبع الأمم المتحدة)، والكنائس والمساجد، وعقَّب مسؤولو الولايات المتحدة الأمريكية على مقتل أكثر من 15 ألف مدني فلسطيني، وأكثر من 40.000 جريح. بتصريحات يشوبها العديد من التناقضات التي تهدف، بحسب مراقبين، إلى منح الجيش الإسرائيلي الفرصة لتحقيق أهدافه في القطاع، وتخفيف حدة الغضب تجاه أفعاله الملتبسة بين الوحشية والإجرام والإبادة الجماعية. وكانت نتيجة هذه الازدواجية، التوصل إلى اتفاق هدنة هش لمدة أربعة أيام، بوساطة قطرية ومصرية، وجهود أمريكية، تم مدّها ثلاثة أيام أخرى، على مرتين، وتم الإفراج خلال هذه الهدنة على 110 من الرهائن بينهم 86 إسرائيلياً، مقابل الإفراج عن 330 من الأسرى الفلسطينيين، وسرعان ما استأنفت إسرائيل حرب الإبادة بالوتيرة نفسها والتداعيات ذاتها، مع التأكيد هنا، أن الهدنة ليست هي الحل، وإنما الحل الأمثل هو وقف شامل ودائم لإطلاق النار، تعقبه مفاوضات جادة حول حل الدولتين وفقاً لقرارات الشرعية الدولية والتي ترفضها إسرائيل.
استياء دول الجنوب العالمي من ازدواجية الغرب
وما يحدث، يجعلنا نتساءل، ماذا بقي للغرب من أخلاق وضمير يواجهون به العالم، بعد أن وصل عدد الأطفال الضحايا في قطاع غزة إلى ما يزيد عن 6000 قتيل؟، ألم يكفهم ذلك العدد، إلى جانب نحو 4000 من النساء، وآلاف المفقودين أو تحت الأنقاض حتى يعودوا إلى رشدهم ويعترفوا بأخطائهم؟ ومتى يدركون أن المنظومة القيميّة والأخلاقية للغرب قد سقطت سقوطاً مدوياً ومخزياً، بعد أن شعر الشرق بأنها تستهدفه لحساب دولة بعينها؟ ومتى يفهمون رسائل مظاهرات شعوبهم، والتي هي في الأساس، حالة غضب واستياء ضد المعايير المزدوجة لحكومات دولهم؟ ألم يفكروا، ولو للحظة واحدة في أن هذه الأرقام المخيفة للضحايا ينبغي أن تهز أي كيان وأي إنسان في أعماقه جانبٌ من الرحمة أو وازعٌ من ضمير؟ ألم يفكروا في الآثار التي يمكن أن تترتب مستقبلاً على انهيار المنظومة القيميّة للغرب، على أعتاب أحداث قطاع غزة؟، إذ يؤكد تقرير نشرته صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية بعنوان، “العالم النامي يرى ازدواجية المعايير في تصرفات الغرب بين غزة وأوكرانيا”، أن حرب قطاع غزة لم تؤدِ إلا إلى زيادة الاستياء في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، من ازدواجية المعايير لدى الغرب، ويشير إلى احتمال أن يكون فرض العقوبات مستقبلاً على روسيا أكثر صعوبة، في ظل استياء البرازيل وإندونيسيا من ازدواجية المعايير في حرب قطاع غزة، وفشل الولايات المتحدة الأمريكية في جذب دول مثل تركيا والهند لفرض تلك العقوبات، ويتنبأ التقرير، باحتمال تزايد النفوذ الروسي والصيني في “دول الجنوب العالمي”، أي في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.
لقد فضحت حرب قطاع غزة زيف كل الشعارات التي يرفعها الغرب، لاسيما شعارات حقوق الإنسان وقيم الديمقراطية، وكشفت إلى أي حد تتبنى الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها الأوروبيون معايير مزدوجة فيما يتعلق بالدم الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية المراق على أيدي القوات الإسرائيلية، والدم الأوكراني المراق على أيدي القوات الروسية، وكشفت المواقف الأمريكية والأوروبية كيف يتم تغيير المصطلحات وتلوين معانيها من منطقة إلى أخرى، وفقاً للمصالح وانحياز الغرب وتحيّزه. ففي حين تطالب الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها الأوروبيون بتطبيق المبادئ العالمية لحقوق الإنسان على ما يصفونه بـ”فظائع” ترتكبها روسيا في أوكرانيا، لا يحركون ساكناً أمام استهتار إسرائيل بحياة المدنيين في قطاع غزة.
بايدن والولايات المتحدة الأمريكية.. معايير مزدوجة
فعلى صعيد الموقف الأمريكي، تتبدى بوضوح المعايير المزدوجة في حرب قطاع غزة، حيث أرسلت واشنطن حاملتي طائرات وغواصة نووية إلى منطقة الشرق الأوسط للحيلولة دون اتساع الحرب ولردع خصوم إسرائيل عن التدخل، كما أرسلت نحو 900 جندي إلى قواعدها بالشرق الأوسط تحسباً لاستهدافها من جانب جماعات وميليشيات موالية لإيران، ومنعت صدور أي قرار من مجلس الأمن الدولي يدين إسرائيل، أو يفرض وقفاً لإطلاق النار، باستثناء القرار الذي مهّد إلى الهدنة المؤقتة لمدة 4 أيام، وزار الرئيس الأمريكي، جو بايدن، إسرائيل، وأكد دعم بلاده القوي لها، وتعهّد بتوفير ما تحتاج إليه إسرائيل من ذخيرة للقضاء على الفصائل المسلحة الفلسطينية، وبكى الرئيس الأمريكي، وكذلك فعل المتحدث باسم البيت الأبيض، جون كيربي، على صور أطفال إسرائيليين زعمت إسرائيل أنهم قُتلوا بطريقة وحشية على أيدي قوات حماس والذي أثبت بعد ذلك أنها كاذبة، ولكن تبيّن فيما بعد، أنها صور مزيفة ومفبركة بإحدى تقنيات الذكاء الاصطناعي. ولم يرف لبايدن رمش، ولم يهتز له جفن أمام آلاف الصور والمشاهد الحقيقية لمقتل أكثر من 15 ألف مدني في قطاع غزة ونحو 40.000 جريح، بينهم أكثر من ستة آلاف طفل فلسطيني، ونحو أربعة آلاف من النساء، وآلاف المفقودين أو تحت الأنقاض، وفيما أبدى، بايدن، ردود فعل قوية من خلال بيانات الشجب والإدانة ووصف الأعمال الروسية بالإجرامية على مقتل الأطفال الأوكرانيين، لم يشجب أو يُدِن، ولو لمرة واحدة، مقتل الأطفال الفلسطينيين، على الرغم من أن عدد الأطفال الضحايا في قطاع غزة يمثل 12 ضعفاً لعدد الأطفال الضحايا في أوكرانيا، بواقع 6000 طفل فلسطيني قتيل إلى 512 طفلاً أوكرانياً.
ومما لاشك فيه، أن المواقف الأمريكية والأوروبية جعلت دولاً وشعوباً عديدة تشعر بالصدمة وخيبة الأمل من ازدواجية المعايير لدى كبار المسؤولين والساسة الغربيين، ولِمَ لا؟، وهم يرون انحيازاً أمريكياً واضحاً ونفاقاً صارخاً لمسؤولي إسرائيل، وتبدى هذا الانحياز والنفاق أكثر في وصف مستشار الأمن القومي الأمريكي، جيك سوليفان، لقصف منازل المدنيين في قطاع غزة بأنه “ليس انتقاماً، وإنما دفاعاً عن النفس”، وبدلاً من إدانة قصف الجيش الإسرائيلي للمستشفيات والمدارس، الذي يتعارض مع مبادئ القانون الدولي الإنساني، ويزيد من معاناة الأطفال، اختار الرئيس الأمريكي، جو بايدن، عبارات منتقاة بتحفظ وحذر، للتعبير عن هذا الواقع الأليم، الذي وصفه الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو جوتيريش، بأنه “كابوس مستمر وانهيار للإنسانية”، منها: “لم أتردد في التعبير عن قلقي بشأن ما يحدث”، و”آمل أنه سيكون هناك إجراءات أقل تدخلاً فيما يتعلق بالمستشفيات”، وكلها تصريحات يُفهم منها عدم الاعتراض على ما يحدث، وتنطوي على ازدواجية صارخة في المعايير، إذا ما قارناها بالموقف الأمريكي من الحرب الأوكرانية، إذ دعّمت الولايات المتحدة الأمريكية إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف بحق الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وأدانت بأشد العبارات ما أسمته «الإبادة الجماعية» التي ترتكبها القوات الروسية في أوكرانيا، وفرضت عقوبات قاسية على روسيا بالتنسيق مع حلفائها الأوروبيين.
ألمانيا وفرنسا.. اصطفاف غير مشروط مع إسرائيل
لم تختلف مواقف برلين كثيراً عن موقف واشنطن، إذ اختارت ألمانيا منذ الوهلة الأولى الاصطفاف غير المشروط مع إسرائيل، بمبرر حق الدفاع عن النفس، وأيّدت الحكومة الإسرائيلية في القضاء على الفصائل الفلسطينية المسلحة، لاسيما حركة حماس، وعملت الحكومة الألمانية على إخماد أصوات كل من يحاول أن يغرّد خارج سرب الموقف الرسمي، وقدمت شحنات ذخيرة للسفن الحربية الإسرائيلية، وأجرت مناقشات لإرسال قوات عسكرية إلى إسرائيل لمساعدتها في تحقيق ذلك، غير عابئةٍ بالفاتورة الإنسانية الباهظة التي يدفعها المدنيون في قطاع غزة، وعلى غرار الرئيس الأمريكي، جو بايدن، وإرضاءً للوبي الإسرائيلي في ألمانيا، واندفاعاً بعبء ماضي الهولوكوست، ولأسباب أخرى، رفع المستشار الألماني، أولاف شولتس، شعار “أمن إسرائيل مصلحة عُليا لألمانيا”، وأفرغ، شولتس، دعوة وزيرة خارجية ألمانيا، أنالينا بيربوك، لإسرائيل، أثناء جلسة لمجلس الأمن الدولي، بضرورة احترام القانون الدولي الإنساني، من مضمونها، وذلك بقوله: “لا يساورني شكّ البتّة في أنَّ الجيش الإسرائيليّ سيلتزم حتماً بمبادئ القانون الدولي، لأن إسرائيل دولة ديمقراطيّة تديرها مبادئ إنسانية!”، وقد وصف محللون كثيرون هذا التصريح بأنه مُنحاز، ويكتنفه نفاقٌ صارخ، لأنه جاء متناقضاً تماماً مع إعلان وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف جالانت، على مرأى ومسمع من العالم كله، بقطع المياه والطعام والوقود والكهرباء عن قطاع غزّة، ووصفه للفلسطينيين في قطاع غزة بأنهم “حشرات”. وتشير تقارير إلى أن ازدواجية المعايير في الموقف الألماني اعترتها العنصرية المقيتة، عندما ربطت رئيسة لجنة الدفاع في البوندستاج (البرلمان الألماني)، ماري-أغنيس ستراك-زيمرمان، بين هجوم روسيا على أوكرانيا، وعملية طوفان الأقصى، على أساس أن 7 أكتوبر، هو عيد ميلاد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين. ووصلت ازدواجية المعايير مداها، وعكست الانحياز الأعمى لإسرائيل، عندما حاولت حكومات عدة، في دول أوروبية، لاسيما، ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، حظر المظاهرات المنددة بالحرب جملةً وتفصيلاً، والمطالبة بوقفٍ فوري لإطلاق النار، بالإضافة إلى قيام السلطات الألمانية بممارسة عمليات قمع ضد الجماعات المسلمة المؤيدة للفلسطينيين في ألمانيا.
فرنسا، هي الأخرى، وقعت في فخ ازدواجية المعايير، إذ جاءت مواقف وردود فعل الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، على استهداف المدنيين ومقتل الأطفال في قطاع غزة متناقضاً تماماً مع مواقفه من مقتل الأطفال في أوكرانيا، ففي الرابع من أبريل 2022، غضب، ماكرون، بشدة من قتل روسيا 14 مدنياً في بلدة “بوتشا” الأوكرانية، ودعا لفرض المزيد من العقوبات على روسيا، وقال: هناك أدلة واضحة على أن القوات المسلحة الروسية مسؤولة عن جرائم حرب في أوكرانيا، ولكنه، أي ماكرون، لم يُدِن قتل إسرائيل لأكثر من 15 ألف مدني وتدميرها لأكثر من 70% من منازل القطاع على رؤوس ساكنيها، ولم يتلفظ بمصطلحات ومفردات الوحشية والبربرية والإبادة الجماعية وجرائم الحرب، في تصريحاته بشأن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، كما يفعل هو ونظراؤه الأوروبيون عندما يتحدث عن الحرب الروسية-الأوكرانية.
وباستثناء موقفي بلجيكا وإسبانيا، المتزنين إلى حد ما، جاءت معظم مواقف الدول الأوروبية منحازة تماماً لإسرائيل، وتكتنفها ازدواجية المعايير، وقد وصل الأمر إلى التأييد العلني للإبادة الجماعية لأهل قطاع غزة كشفته زلة لسان رئيس وزراء السويد، أولف كريستيرسون، التي فضحت ما يخفيه بداخله وفضحت الحقد الأوروبي الدفين تجاه الشرق، إذ قال: إن “السويد والاتحاد الأوروبي متفقان على أن لإسرائيل الحق في ارتكاب الإبادة الجماعية”، ثم تدارك الموقف وقال إنه يقصد حق الدفاع عن النفس، بدلاً عن حق الإبادة الجماعية.
تعليقات الزوار ( 0 )