اليوم سيبدأ الحظْر الصحّي. يوم جُمُعة. الجمعة عشرون مارس، انطلاقا من الساعة السّادسة مساء. كان الجو بعد الزّوال مُكفهِرّا كما يُقال. غيوم ولا غيوم، أشعّة ولا أشعّة من شمس باهتة، رياح في تردّد، لا هي مُتراجعة ولا هي مُقبلة. خرجتُ مُضطرّا لبعض التّبضّع. فقط في الحي الذي أسكُنه. الوجوه يبدو عليها القلق أكثر من الاطمئنان. لا تبخل بالابتسامة إذا ابتسمتَ لها، لكنّها ابتسامة مُنقبضة، تُقيّدها تساؤلات مُبهَمة. لستُ هنا بالملاحظ فقط، لأنّني كالآخرين داخل هذه الانحباس.
وقفتُ أمام بائع التّوابل و الأعشاب، العطّار كما نسمّيه نحن المغاربة. ذهبتُ إليه امتثالا لنصيحة زوجتي، نصيحة مؤكّدة بمقياس “السنّة المؤكّدة” : إذا كان اقتناء التوابل ضرورة لا مناص عنها لأنّها الرّوح بالنسبة لجسد الطّاجين وأطباقَ أخرى من تُراث الطّبخ المغربي، فإنّ اقتناء بعض الأعشاب ضرورة (كما ترى زوجتي بعد الاطلاع على بعض الوصفات المُتداولة) لتطهير أركان البيت من كلّ الميكروبات والفيروسات، وتعطير الجوّ فيه. الأملُ كبير في هذه الأعشاب لخنق أنفاس الكوفيد الخبيث، كلّما تسرّب إلى البيت بعد خروج ودخول، دخولي وخروجي أنا فقط، “للضّرورة القصوى” كما تقول التّعليمات الإدارية. وعلى أيّ فقد اتّفقنا نحن الاثنين على الأدنى : الأعشابُ المُختارة بدقّة، وعلى رأسها الشّيح والقرنفل والكاليتوس، تعطّر وتريح النّفس.
باستثناء السّيدتين اللّتين انصرفتا بعد اقتنائهما لاحتياجاتهما من توابل و أعشاب، كنّا نحن أربعةَ رجال لا أكثر أمام العطّار. كان وقوفنا مُنضبِطا، بل مُحتشما إلى حدّ ما. بيننا المسافة المنصوح بها طبّيا وإداريا، متر واحد يزيد أو ينقص قليلا، ولو أنّنا نحن الأربعة، فضّل كلّ واحد منّا أن ينحاز إلى الزّيادة لا إلى النّقصان. بدا لي الثلاثة، كما هو شأني، من فصيلة الأطر “الواعية”، ولو انّ التّحفّظ على هذه الخاطرة يفرِضُهُ ما عاينته من انضباط لأُناس اخرين، بمظهر مغاير ومتنوّع، امام اللّبّان والجزّار والحوّات، على يميننا ويسارنا.
كان العطّار ومساعدُه مُنهمكان في إعداد طلباتِ كلّ واحد منّا. كنت بالصدفة “واسطة العقد” أمامه، خلف الشّريط الذي حرِص على تمديده على بُعد سنتمترات من سلعته الأمامية، اتّقاء لكلّ عدوى قد تنتقل بيننا. شريط “صحّي”، بدون شك بأمر من أعوان السلطة الذين كانوا يمشّطون أزقّة الحيّ وأعينُهم اليقِظة على كلّ شاذّة وفادّة، كما أعينُنا وأعينُ المارّة القلائلِ عليهم، في نظرة مُغايرة، تجمع بين التّقدير والإعجاب وبعض الخوف منهم. كانت طحّانة التّوابل لا تكادُ تتوقّف عنِ التهام هذه الموادّ لتحويلها إلى فُتات أو رماد قابل للاستعمال المنزلي. كان صفيرُها وهي تطحن صفيرا يتنوّع حسب تنوّع التوابل شكلا وصلابة. ومع ذلك، كان الإزعاج النّاتج عن حرب الإبادة داخلها شيئا مُتحمّلا، بل شيئا لا يذكر، مُقارنة مع ما ينبعِث عنها من غُبار تعدّدت ألوانُهُ كألوان الطّيف، ومع ما يصلُ إلى أنوفنا نحن من روائحَ تتراوحُ بين القوّة واللُّطف، في تشابك مُبهر بين عِطر الإبزار الحارق، وعِطر القرنفل المُخترِق، وعِطر القَرفة المُدغدِغ، وهلُمّ جرّا في انسيابِ عطور أخرى بين هذه النَّكهات الثلاث.
“باش نبدا ليك” ؟ هكذا خاطبني العطّار للإفصاح عن طلَباتي ؟ بالإبزار أجبت، وكأنّني أفتتِح معركة الطّحن الخاصّةِ بي بأسد التّوابل. انطلقَتِ العملية، وفجأة ما شعرت حتّى رفعتُ ذراعي لتغطية فمي وأنفي تحت ضغط رائحةِ و حُبيباتِ الإبزار التي تسرّبت إلى خياشيمي. كِدتُ أعطِس، و لكنّي لم أفعل. في نفس الوقت، وبسُرعةِ الحركةِ التي قمتُ بها، سمعت “يا حافظ” تصدر عن الزّبون الذي ورائي والذي بادر، في نفس الوقت في رمشة عين، إلى القفز إلى الوراء. ردُّ فعلِهِ هذا كان مُنبّها قويّا جعلني كما جعل الزّبونين الآخرين نلتفت إليه وهو يُبادر إلى قفزته المرعوبة، مرفوقة بوضع باطن المرفق على وجهه. خاف وطبّق بتلقائية فائقة نصائح الاحتراز الصّحّي.
بتلقائية أيضا، خاطبتُه مُبتسما ومازحا في نفس الوقت “كُن مع الله يكون معاك”، و أضفت ما هو أكثر مؤاخذة : “آخويا، راك قفزتي اللّور لُوسط الطّريق والطّوبيس يالله داز، هير حفظك الله”. وأضفت “ها الطريطوار خاوي و قفز كيف ما بغيتي”. ابتسم الآخرون وانبسطوا أيضا، إلاّ هو. لم يكن غاضبا وإنّما مُضطربا. ولكن سُرعان ما رجع إلى مكانه محتفظا ببدايةِ ابتسامة داخل شَفتيه. علّق فقط باقتضاب : ” ما بقى هاد الأيام لا طوبيس ولا طوبيسة، الدّنيا خوات”، مُقتنعا دون شكّ في قرارة نفسه بأنّه نجا من حادثة مُهلِكة. بدا لنا جميعا، في لحظة اتّفاق ضمنية، أنّ قفزته كان يجب أن تكون إلى الأمام لا إلى الوراء، وأنّ الله سلّم.
لكن، ماذا لوِ انتقلنا، في مسألة القفز هذه، من الحالة الفردية إلى الحالة الجماعية، من حالةِ كلّ مُواطن على حِدة إلى الدّولة كسُلطة ومؤسّسات؟ لم يأتِني هذا التّساؤل بشكل عفوي أثناء الوقوف أمام العطّار، وإنّما بعد الرّجوع إلى المنزل واستئناف انغماسي في معمعةِ الأخبار والتّحليلات والتّعليقات والمُجادلات حول أزمة كوفيد اللّعين، البسيط منها والمركّب، الخُرافي والعقلاني. ولم أدرِ إلاّ وكان العطّارُ هو من تبادر إلى ذهني افتتاحا لعملية التّأمّل هذه في القفز، انتقالا من كونه حركة جسدية إلى تصوّره موقفا وسلوكا. استرجعتُ مع نفسي وقدّرت أنّ العطّار كان لا يتحرّك جسديا فقط، بل كان يتحرّك أكثر نفسيا ومعنويا. كان يتحرّك في كلّ اتّجاه، ولكنّه في العُمق كان يقفز باستمرار إلى الأمام. يتجلّى ذلك : في الابتسامة التي كانت لا تُفارقهً؛ في تلقّي الطلبات، في تذكّرها، في التّنسيق في شأنها مع مساعده، وفي استمهال الزّبون بلباقة حتّى لا ينصرف؛ في تلقّيه بخفّة ودِراية أكياسَ السّلعة التي كانت تصلُه من مُموّنيه، عامدا إلى ترتيبها بعفوية من غير أن يأخذ من وقت الزبناء ما قد يُثير تذمّرهم. هل كان محرّكُه تصريف البضاعة والرّبح فقط ؟ بكلّ وضوح لا، ولو أنّ الربح شيء بديهي ومشروع. إنّه تاجر بدون انقطاع. ما قام به اليوم هو ما يقوم به كلّ يوم من الأيام الفارطة. الفرقُ اليوم، يوم انطلاق الحجر الصّحّي، وقد عمّ بعض التّهافت في التّبضع، وخاصّة بعضُ القلق، وبعضُ “الحزن في الرّأس وفي القلب” كما كتب الأديب ادريس الخوري، أنّ العطّار كان يُشيع التّفاؤل لدى زبنائه، مساهما في إشهار المُعتاد في وجه الاستثناء، وفي ممارسة الحياة بدل الشّعور بنكوصها. ألم يكن بهذا الشّكل يقفز بنا إلى الأمام بدل القفز إلى الوراء ؟ كان ذلك بدون شك عمليةً عفوية لديه، وبكلّ تأكيد من ضمن ما أصبح عنده بمثابة الطّبيعة الثانية في ذهنه وتصرّفه، شأنا بديهيا “في الرّاس وفي القلب” استحضارا مرّة أخرى لادريس الخوري. ورُبّما هي كذلك لدى كلِّ واحد منّا، أذا كان له استعداد نفسي وبيئي لذلك، كلّ حسب وضعِه الاجتماعي، ومهنته، وتكوينِه، وانخراطِه أو عدمِ انخراطه في إطارات مُنظّمة.
أمّا القفز بالنّسبة للدّائرة العامّة فشأن آخر. وهو شأن آخر، أكثرَ حساسية، من حيث نوعُه ومضاعفاتُه، لأنّه يهُمّ الدولة ومؤسّساتِها، بما في ذلك تنظيم علاقاتها بالقطاعات الخاصة داخلها كالأحزاب والمقاولات. القفز إلى الوراء ليس كالقفز إلى الأمام. وهما بالتأكيد ليسا كالإحجام عن القفز، لأنّ الوقوف في عين المكان قد يكون جمودا، وقد يكون تستّرا على القفز إلى الوراء، وقد يكون تمويها للقفز إلى الأمام. في كلّ الحالات، القفزُ بالنسبة للدّولة سياسة واستراتيجية، ولو أنّ هذه التّوصيف الأخير لا يصلح في العمق إلاّ لحالة القفز إلى الأمام. تعالوا إذن نُدلي بتركيز ببعض الخواطر حول هذا الأمر، في إطارِ أزمةِ كوفيد الحالية، ثمّ بعد انتهاء هذه الأزمة في استثنائها الحالي.
ما هو المُلاحظ خلال هذه الأيام العصيبة وقد قاد الإعلان عن انتشار الدّاء إلى ضرورة مواجهته ؟ قامت الدّولة باستنفار نفسها ومؤسّساتها. بلغة الحركة التي تبنّينها هنا، قامت الدّولة بالقفز إلى الأمام. لم تقفز إلى الوراء هلَعا كما كان طبيعيا أن يقوم به الزّبون الذي اعتبرني خطرا داهما عليه أمام العطّار. فكما أنّه لا مقارنة مع وجود الفارق، فإنّ للدّولة شخصية معنوية، كما يقول القانونيون، تمنعُها في ظروف حرِجة كهذه من الانسلاخ من مسؤوليتها، بل وحتّى من الاضطراب في الرّؤية تُجاه ما تقتضيه هذه المسؤولية. كان يكفي الزّبونَ المعني أن يتهدّد الخطرُ أسرته ليقفز إلى الأمام كي يقوم بواجبه في الدّفاع، وكأنّه يأخذ من هذه الشّخصية المعنوية نصيبا. بل إنّ ما عاينهُ كلّ مُلاحظ انطلاقا من مُواطنته، أنّ الدّولة لم تكتفِ حتّى بالاستكانة إلى سياستها وأدواتها المُعتادة. قدّرت أن الاستثناء لا يواجهُهُ سوى الاستثناء، وأنّ حالة الضّرورة تتطـلّب قانون وسياسة الضّرورة. ولمّا قدّرت فعّلت.
فعّلت الدّولة إجراءات تِلو إجراءات، ومِن هذهِ تناسلت عملياتٌ وعمليات. ولْنَدَع جانباً، دون تقليلٍ من أهمّيتها، تلك التي كانت لها طبيعةٌ شكلية، احتياطيةً وواقية، مِن إغلاقٍ للحدود بكلّ أنواعها، مِن تمكيثِ النّاس في منازلهم، مِن إقْفال أنشطةٍ وتجاراتٍ غيرِ ضرورية، وما إلى ذلك. ولْنتوقّف عند تلك التي لها طبيعةٌ جوهرية، مِن شأنها أن تَبصم أيّام الكوفيد المغربية بطابع الحزْم والإرادية والفورية. في فترةٍ وجيزة، بِفعْلِ فاعلٍ لم يتردّد، قفزتِ الدّولةُ بالاقتصاد الاجتماعي إلى الواجهة. ضدّا على التّوازنات الماكرو-اقتصادية كما يُقال، وعلى ضَعْف الميزانياتِ وعجزها، وعلى كلْكَلِ الدّيون الخارجية والدّاخلية، خرج هذا الاقتصاد من الحضيض إلى القمّة، ومن الظّلمة إلى النّور. أصبح حلاّ بعد أن كان مشكلة، وانتصب قاعدةً مُثلى في الأيام العصيبة. مكّنت بِنيةُ النظام المغربي من تفعيلٍ ناجعٍ لهذا التّحوّل الظّرفي : قرارٌ في هذا الاتّجاه، بحُكم ما في الدّستور، من قمّة الدّولة، بما لها من ثِقْلِ التّاريخ والمشروعية، لا يُمكن أن يكون إلاّ أسْرعَ و أنْجع ممّا يُمكن أن تُبادر إليه حكومة، لرئيسها اختصاصاتٌ دستورية، لكنّها مُرتهِنةٌ إلى تدافعاتً وتسابقاتً سياسيةً بين مُكوّناتها. وعلى أيًّ، ففي وقتِ الشّدّة، لا يُبادر ولا يختار ولا يوجّه بحكم الدستور وبحكم الأعراف إلاّ الملك، أمير المؤمنين و رئيس الدولة، كما تمّتِ التّعبِئةُ بهذه الصفة الأخيرة في الدّول الأخرى، ولو برمزية أقلّ.
أيّامٌ عصيبةٌ نعم، ولكنّها ستبقى موشومةً في أذهاننا بما تقرّر وتمّ تفعيله حيناً و دون هوادة، بمنطقِ الاقتصاد الاجتماعي. عُدّةٌ كاملة من الإجراءات. على رأسها ما شكّل أساسَها ومنبعَ تتابُعها فيما بعد، صندوقُ الكوفيد 19 على شكل حساب لدى بنك المغرب الّذي تلقّى مساهمة الدّولة وهيئاتٍ عمومية وشِبه عمومية، ثمّ بوتيرةً مُتتالية مساهماتُ هيئاتً خاصّة، ومساهماتُ المواطنين مِن رواتبهم أو أجورهم أو مداخيلهم. كانت المساهمات في مستوى عالً، وكان تصريفها مُؤطّراً ومُنتظِماً لأهداف الصّندوق : مِن جهةٍ أولى، دعمُ مهامّ الصحة العمومية وتمويلُ تجهيزاتها الأساسية لمواجهة الآفة ؛ مِن جهةٍ ثانية، دعمُ المقاولات المُتضرّرة، والمشاركةُ في مجهود الدّولة المالي لتعويض فاقدي الشغل أو المُتضرّرين فيه، المُنخرطين منهم في نظام الضّمان الاجتماعي، أو غير المُنحرطين، الواقفين كما يقول المغاربة “عْلَى باب الله”. أيّامٌ عصيبة نعم، لكن بطعم التّضامن والتّآزُر. في كلّ يوم، نتلقّى إحصاء المُصابين الجُدُد، مقرونا بعدد مَن مات ومَن تعافى، ونتعرّف على المُستبعدين بعد أن كان مشكوكا في أمرهم، ثمّ على العدد الإجمالي لحاملي الفيروس. إلاّ أنّه في كلّ يوم، نحصُلُ على ثُلاثيةِ المُواطنة : الإطمئنانُ من خلال الإعلان عن الإعانات المُقدّمة، والتّعويضات المصروفة ؛ البلْسمُ من خلال ما يجري من جهادٍ على ساحةِ الصّحّة بفضل الطبيبات والأطبّاء والمُمرّضات والمُمرّضين وكلّ أعوان القطاع؛ الطمأنينة من خلال وقوف نساء ورجال الأمن وسُلطات القُرب على قدمً وساق من أجل التّتبُّع والنُّصح وتطبيق القانون في أمر نظام الامتثال الّذي فرضه الوباء. وكأنّ الدّولةَ ومَرافقها وأذرُعها تقمّصت صورة عطّارنا الّذي رفع من وتيرة عمله وخبرة حنكته لتلبية احتياجات زبنائه المُلحّة.
كان هذا شعوراً مُتقاسماً بين الجميع، وإن بدرجات متفاوتةٍ ووعيٍ غير مُوحّد. شعوًرٌ يمكن الوقوف عليه في المواقع الاجتماعية و فيما ترصُدُه، في تقاطعٍ فيما بينها، الصّحُفُ ووسائل الاتّصال السّمعي-البصري. لا يتعلّق الأمر إذن ببناءٍ تحليلي يختلقه المحلّلون والمُعلّقون، تحقيقاً لرغبة في مساندة مُصطنعة او تصفيق مجّاني، وإنّما بيوميّ مُعاش، ملحوظٍ ومُوثّق. وهو ما لا يمنعُ فيما بعد التّقييم والتّقييم المُضادّ للسياسات الفارطة والسياسات القادمة من زاوية الأزمة الحالية.
نعم، بدون شكّ، تفرض الأزمة الحالية التّفكيرَ في ما بعد الأزمة. من مواجهة الجائحة في استثنائها، لا بدّ من الانتقال إلى سياسة الجائحات المُحتملة فيما تقتضيه من استراتيجية مُركّبة. في السّطور أعلاه، استعملنا عبارة الاقتصاد الاجتماعي، وكونه تصدّر عمل الدّولة لمواجهة الخسائر وتلبية الحاجيات. كان الاستعمال من باب التّعبير عن التّقابل الحَيْني بين عنصرين : إدخال اللّيبرالية ومعاييرها المُحاسباتية في “الاعتقال الاحتياطي”، لإطلاق الإجراءات الاجتماعية من عُقالها بشكلٍ مترابطٍ ومُكثّف. كان في الأمر بعضُ النّشوة الفكرية. أمّا ما تقتضيه الموضوعية وتفرضه المنهجية المُرافقةُ لها فهو استعمال عبارة اقتصاد الأزمة كتعبير أنسب. هذا الاقتصاد هو كالعلاج بالأدوية قصيرة المدى بالضّرورة (الكورتيزون مثلا)، إذا دامت تسبّبت في ارتباكات وفوضى صحّية. وحدها التّغدية الصّحيّة المتوازنة، تُعزّزُ نتائج هذا العلاج وتُغني عنه فيما بعد. الجائحة ضغط يومي يبرّر اقتصاد الأزمة ويجعلهُ مقبولا وقابلا للتّفعيل. في ما بعد الجائحة، يفقد اقتصاد الأزمة مُبرّره و سنده، ولا يمكن أن يستمرّ إلاّ بعد تحويله إلى اقتصاد اجتماعي، شريطة القيام باستنتاجات من الجائحة الحالية واعتبار أنّ الجائحات المُحتملة القادمة، من أيّ نوع، ستصبح مُعطىً من مُعطيات سياسات الدّول مُتفرّقةً، أو مجتمعة بأيّ شكل من الأشكال.
من البديهي أن تُقفِل الدّولة قوس اقتصاد الأزمة بعد الإعلان الرّسمي عن نهاية الجائحة. ومن الأكيد أيضا أن لا تفعل ذلك، اقتصاديا واجتماعيا، إلاّ بعد تعافي النّسيج الاقتصادي نسبيّا واسترجاع الشّغّيلة، من القطاع غير المُهيكل خاصّة، لأنفاسها أي لأنشطتها، ولو بالإيقاع المُتقطّع الّذي دأبت عليه قبل اندلاع الأزمة. ويُمكن أن نُخمّن أنّ صندوق التّضامن الذي عرف مساهمةً كبيرةً انضافت إلى مجهود الدّولة، سيسمح بهذه المُهلة المعقولة في فكّ الارتباط بالاقتصاد المذكور. لكنْ ما العمل، وما المُنتظر، وما المُفترض أن يقع في هذا المُنعرج، انتقالاً من الجائحةِ إلى ما بعدها ؟ يُمكن أن نُخمّن ايضا أنّ يوميّات جديدة، بعد يوميّات الكوفيد 19، ستفتَحُ صفحاتها للتّدوين والتّعليق أمام المُلاحظ النّبيه وأيضا أمام المواطن العادي. سيكون من الصّعب أن يتقبّل هذا أو ذاك أن تأفُلَ الدّولة بعد أن توهّجت في مُواجهة الوباء.
ستطرح هذه الأسئلة نفسها : إلى أين ستقفز الدّولة الآن بعد أن قفزت إلى الأمام في الأيّام الحرِجة ؟ هل ستقفز إلى الوراء نحو سياساتها العمومية السّابقة ؟ ألن يُشكّل ذلك خيبة أمل، لا بالنّسبة للمواطن فقط، الهشّ خاصّة، ولكن بالنّسبة لها أيضا ؟ قفزةٌ إلى الوراء، ألا تُساوي فُقدان الدّولة لرصيدً من الإعجاب والمساندة، اكتسبتْهُ عن جدارة وهي تنافح باقتصاد الأزمة عن المصلحة العامّة ؟ من المُرجّح أنّ الدّولة المغربية، في أعلى مُستوياتها، لن تستثني نفسها من إعادة النّظر التي ستكتسح دول العالم، خاصّةً تلك التي يُعتدّ بها، في الأهداف والوسائل والحكامة التي تتعلّقُ بهما. من المُرجّح أن يَطالَ التغيير بعد أزمة الوباء بنيةَ ومضمونَ العولمة الاقتصادية، مع ما سيكون لذلك من انعكاسات. ومن المفيد والغالب، في هذا الإطار، أن تستخلص الدّولة المغربية من قفزتها التّدبيرية الاجتماعية، أثناء هذه الأزمة، قفزةً أُخرى قصد هيكلةً اجتماعية نافذة لاقتصادها. سيتعلّق الأمر بتغليب التّوازن الاجتماعي على مُجرّد التّوازن الاقتصادي، أو على الأقلّ البحث عن تساكنهما، وإن كانت هذه الصّيغة صعبة التّدبير. تُساعد من غير شكّ تجربةُ الجائحة، كما تساعد عقلانيةُ القناعةِ باحتمال تِكرارها وبفرضية دورية الأزمات على المدى الطّويل، على الاحتراز من عدم إخضاع السّياسة الاقتصادية للمُتطلّب الاجتماعي. إذْ أيّةُ مِصداقية ستبقى لفرضيةِ الاعتماد على التّضامن بين الدّول والمُساعدة لبعضها البعض ؟ آنذاك، ستُصبحُ التّبعيةُ لا مُضعِفة فقط بل مُشِلّة للإرادة والسّيادة. على عكس الأفراد وحتّى بعض التّنظيمات، لا ينبغي أن يُشكّل المدى الطّويل بالنّسبة للدّولة مدعاة للتّأجيل، بل مدعاة للوعي و المبادرة، لأنّه معيارٌ أساسي في طبيعتها ووظائفها، من أجل حياتها وحياة مواطنيها.
ليس التّحوّل سهلا في هذا الاتّجاه، إلاّ أنّ المُلاحـَظ بإمكانه أن ينتبه إلى أنّ الدّولة المغربية تتوفّر على منطلقات استباقية مُساعدة على ذلك، صادرةٍ قبل الأزمة من التصوّرات والتّوجّهات الاستراتيجية التي ترجع بحكم الدّستور إلى الملك، أي إلى مُؤسّسة تتماهى مع المدى الطّويل، بمعزلٍ عن التّحوّلات الانتخابية. يكفي أن نذكر هنا على سبيل المثال آليتان، على مسافة زمنية بينهما، لهما توجّه اجتماعي واضح: آلية المبادرة الوطنية للتّنمية البشرية التي انطلقت منذ ما يزيد عن عشر سنوات لتفعيل وإدماج الرّأسمال البشري؛ وحديثا، آلية التّمويل البنكي المُوسّع والمُيسّر لمبادرات الشباب في مجال المُقاولة الذّاتية، والتي أحدثت رجّة في منهجية التّمويل المُعتادة من طرف المؤسّسات البنكية. ليس من الضّروري تقديم أمثلة أخرى، لأنّ المقصود هنا هو أنّ التّعدّد النّسبي للإجراءات الاجتماعية في نسقً اقتصادي تراجعت فيه أدوار الدّولة، لم يُؤدّ إلى تكوين اقتصاد اجتماعي مُتكامل، بقدر ما كان فقط عبارة عن مُبادراتً اجتماعية نابعةٍ من ضغوطات واهتزازات المنظومة اللّيبرالية، دوليا ووطنيا، وبالقدر الذي يستمرّ فيه انعكاسُ المستوى الأوّل على المُستوى الثاني. تُصبح الإجراءات الاجتماعية في هذه الحالة ردودَ فعلً للإنقاذ أكثرَ منها أعمالا للتّخطيط والبناء. ما قامت به الدّولة أثناء الجائحة قد يدخل نسبيا في هذه الخانة، ولكنّه يُعبّر في العمق عن إرادة سياسية لا خيار سواها، في الوقت الذي انصرفت فيه كلّ الدّول، بدرجاتً مُتفاوتةً، إلى نفس الإرادة لمواجهة الأزمة. ولذلك، فإنّ ما بعد هذه الأزمة، بالنّظر لحدّة الدّروس التي ستُخلّفها دوليا ووطنيا، قد يكون الفرصةَ المُواتية لتبنّي هذه الإرادة السّياسية في التّوجّه الاقتصادي. وحدها هذه الإرادة بإمكانها، في هذا المُنعرج المُشترك بين الأمم، أن تستفيد في المغرب من روح المنطلقات الوطنية الاستباقية المذكورة قصد انخراطً بنيوي في اقتصاد اجتماعي قائم الذّات. ولعلّه من حُسْن الطّالع أن يكون الإحساسُ بضرورة هذه الإرادة ومن أجل هذا الهدف، قد تجلّى، قبل ظهور جائحة كورونا، في إحداث اللّجنة الخاصّة بالنّموذج التّنموي. جاءت فكرة اللّجنة بالضبط تعبيرا عن الوعي الحادّ بأنّ أمور الدّولة والمجتمع لم تعُد على ما يُرام، بأنّ الثروة لا تُوزّع، بأنّ الفوارق في ازدياد، بأنّ دائرة الفقر تتوسّع، بأنّ حقد المحرومين أصبح أكثر حدّة، بأنّ الحقوق الاجتماعية غدت مجرّد حبر على ورق، أو في أحسن الأحوال حبرا لا يكفي لكلّ الأوراق، وبأنّ مراجعة نموذج التنمية، نتيجة لذلك، هي “الآن الآن وليس غدا” (كما تُغنّي فيروز) المَسْلكُ السّياسي الأنسب. انطلقتِ اللّجنة في عملها بدون شك على هذا الأساس، مدعوّة في الخُطب الملكية ذات الصّلة، كما في اقتراحات الهيئات المُنظّمة وتعبيرات المجتمع المدني المختلفة، إلى التّفكير المُبدع من أجل نموذج جدري ومتكامل. إنّها في العمق لجنةُ أزمةً من أجل حلّ الأزمة، فريقُ طوارئ من أجل مواجهة طوارئ متشابكة اقتصاديا، واجتماعيا، وسياسيا. وكأنّنا أمام لجنةً للجائحة قبل الجائحة الحالية. وكأنّ هذه الأخيرة تمرين تطبيقي، “بحجم الطّبيعة” ( Grandeur nature كما في التّعبير الفرنسي)، يتحدّى ويعزّزُ في نفس الوقت منهجية اللّجنة. يمكن أن نعتبر أنّ المحنة الحالية، وما سيترتّب عنها من استنتاجات ودروس، مدعاةً إضافية في يد اللّجنة كي تُبدع نموذجا مغربيا قائم الذّات في التّنمية، وفي الاقتصاد الاجتماعي خاصّة، بصفته تركيبة مُتوازنة بين التّنمية والتّوازن الاجتماعي والتّعايش بين الفئات. والأفضل من كلّ هذا، وهو أمر أكيد لا محالة، أنّ تكون اللجنة قد كوّنت لنفسها قناعة في هذا الاتّجاه، لتمُدّ الدّولة ومُؤسّساتها بالفرضية المُثلى : أن يتمّ الانتقال، بعد قوس الجائحة، من الإرادية الاقتصادية والمالية والاجتماعية ذات الطّابع الاستعجالي النّضالي، إلى إرادية بطابع عقلاني وبنيوي. ولا ضير في ذلك، أن يكون الانتقال بشكل تدريجي، نظرا لما يتّسم به هذا المشروع من طابع مُركّب. وحدها القطيعة مع إرادة وروح التّعبئة خلال الجائحة، ستكون صادمة ومُخيّبة للآمال. لا يُحافظ على روح القفز إلى الأمام ويُثمّنُ نتائجه، بعد الأزمة الحالية، سوى القفزُ المُطّردُ إلى الأمام. كلّ قفز إلى الوراء، بالرّجوع إلى السّياسات السّابقة، لن يكون إلاّ بمثابة هروب إلى الأمام. إذا كان من دلالة للّجنة الخاصّة بنموذج التّنمية، وقد سبق إحداثُها هذه الأزمة ومُناخَها، فلن يكون سوى الارتباط بمنطق القفز إلى الأمام.
والآن عَوْدٌ على بدأ. هل يُصلِحُ العطّارُ ما أفسده الدّهر ؟ بالطّبع لا يُصلحُه. لكن، كما في موروث القصّة العربية الّتي تحكي ذلك، ليس خطأ منه وإنّما من العجوز الّتي اقتنت منه أعشاب وموادّ كي تُغالط جسدها وملامحها، وذلك شأنُها، وكي تغالط الآخرين بأنّها مازالت شابّة يافعة، وهو ما لن ينطلي عليهم. في صورتنا التّحليلية، عطّارنا هو الدّولة. و العجوز ليس هو مُجتمعنا، لأنّه ككلّ المُجتمعات كائن مُتجدّد، وإنّما هو ليبراليتنا الّتي تجمع في إفراط و تفريط بين إرادتنا وإرادة الغير، دون إقرار بشيخوخة اقتصاد التّوازنات المالية. أصبح من واجب الدّولة أن تكون قادرة على إصلاح ما أفسدهُ دهرُ المال والأعمال في غُلوّ واستصغار لطاقات المجتمع وحاجياته. أبان عطّارنا، خلال أيام الجائحة، أنّ له من الإمكانيات ومن فنون التّعبئة ما يُطمئنُ الوطن والمُواطنين. من غير شكّ، أتاحت شدّة الأزمة القيام بذلك، لكنّها أتاحت أيضا القناعة بأنّ الأزمة أزماتٌ قادمة، و بأنّ تجربة الأزمة تقتضي شعار “يا دولتي، اقفزي إلى الأمام”.
وكلّ يوم من أيّام فيروس كورونا ونحن بألف خير.
*أستاذ جامعي – رئيس الجمعية المغربية للقانون الدّستوري
تعليقات الزوار ( 0 )