للتدين المغربي توجهات ومظاهر متعددة، عقيدة وفقها وسلوكا، وذلك بناء على اختيارات علماء هذا الصقع الغربي من العالم الإسلامي، كما أن للأقطار الأخرى مظاهر متعددة في التدين تابعة لاختيارات علمائها وترجيحات فقهائها وأحكام قضاتها.
ومظاهر التدين المغربي تبقى “اختيارات في التدين والتمذهب” حسب عبارة أستاذنا الدكتور أحمد الريسوني، لا نعني بها أنها الصواب المحض، وأن الاختيارات المذهبية للأمصار والمجتمعات الأخرى خطأ محض. بل تعني أنها إمكان من الإمكانات،
والتدين المغربي نفسه عرف تنوعا في مظاهره بتنوع جهاته، حيث نجد في سوس ما لا نجده في المناطق الجبلية، وما نجده في الصحراء المغربية الشرقية لا نجده في الصحراء المغربية الغربية. كما أن التدين المغربي عرف أكثر من توجه وممارسة في المجال الواحد، كقبول علمائه بالأشعرية وغيرها، ومنهم من كان على نهج التصوف ومنهم من توقف في شأنه دون الانخراط في سلكه وسلوكه، لهذه الاعتبارات رجحنا تسميتها بالاختيارات والإمكانات، وحِدْنا عن
تسميتها بالثوابت، لأن الثوابت والركائز يتمسك بها المجتمع وعلماؤه ولا يحيدون عنها ولا يلتفتون إلى سواها.
وإذا كان لزاما علينا استعمال عبارة الثوابت، فإنه يتبين لنا بعد التتبع والدراسة أن التدين المغربي عرف ثابتين اثنين:
أولهما: الإسلام عقيدة وشريعة دون سواه، وقد كان تنصير المجتمع هدفا رئيسا من أهداف الاستعمار الفرنسي، وبذل في تحقيق هدفه قصارى جهوده، ووضع لذلك كل إمكاناته، فبنى الكنائس والمدارس، وجاء بالرهبان ووزعهم في كل ربوع الوطن، بل إن فرنسا عارضت مبادئها المقدسة في هذه الجزئية، ولم تتبن العلمانية ومبادئها رغم تمسكها الأورثوذكسي بها وتشددها، ورغم ذلك تبنت الخط الديني المسيحي في سياستها الاستعمارية خارج حدودها، ولم تفلح في خطتها، وبقي الشعب المغربي مسلما، وقد تحمل فقهاء المغرب وحفظة القرآن ونخبة المجتمع دورا رئيسا في تمنيع المجتمع وتحصينه.
ثانيهما: الانفتاح وعدم التعصب، حيث كان في علماء المغرب بعدوتيه أشاعرة وغيرهم، وكان فيهم المالكية بنوعيهم، مقلدة المذهب الذين لا يحيدون عن حدوده المرسومة، ومجتهدو المذهب الذين قد يخرجون عن حدوده في الفروع، وأحيانا قد لا ينضبطون حتى لبعض أصول المذهب، إضافة إلى وجود من لم يلتزم المذهب بعد أن وصل درجة الاجتهاد. كما نجد في علماء المغرب صوفية كُثرا، ومنهم من لم ينخرط في سلك التصوف، وكانت الخريطة العلمائية والتأليف العلمي يعكس هذا التنوع بنوع من الانفتاح والتعايش وعدم التعصب، مما يدل على المرونة في التعامل مع هذه المكونات المختلفة، وهذا ما دعانا إلى تسميتها بالاختيارات بدل الثوابت.
وإذا قررنا الاختلاف الواقع بين علماء المغرب الذين كانوا مرجعا لتدين العامة في العقيدة والفقه والسلوك، فإننا نسجل الوحدة المطلقة في قراءة القرآن، حيث اعتمد المغاربة قراءة نافع، ولعل القراءات القرآنية المتواترة الأخرى لم تجد موطئ قدم لها في هذا المَصر الغربي القصي.
أشير إلى أن هناك من يطلق على مظاهر التدين المغربي عبارة “الإسلام المغربي”، وهي عبارة ملتبسة، لأن الإسلام دين واحد لا يتعدد، بخلاف التدين، فإنه ليس نسخا متطابقة، ولا نُسخة منمطة معولمة، لذلك كان التدين خاضعا لمنطق الاختلاف باختلاف المجتمعات والأعراف والاجتهادات والاختيارات، وهذا يدل على أن الإسلام نفسه يعرف حيوية ومرونة وقدرة على استيعاب الاختلاف.
وقبل الحديث عن المظاهر الأصيلة للتدين المغربي، نشير إلى بروز ظواهر حديثة وطارئة في التدين المغربي، مثل التشيع الذي عرفه المغرب عن طريق جزء من الجالية المغربية المقيمة بأوربا، وخصوصا بلجيكا، وقد عرف تطورا بفعل وسائل التواصل الحديثة وبفعل الأحداث السياسية التي عرفها الوطن العربي. وهناك تدين طارئ آخر، وهو الوهابية التي تطورت من التدين الصارم غير المنفتح إلى التدين العنيف في سياق ما اصطلح عليه بالسلفية الجهادية، وأسميه “السلفية القتالية”، صيانة للجهاد من براثن الفساد والإفساد.
أما قضايا ومظاهر التدين المغربي فهي ضاربة في عمق تاريخ المغرب والمغاربة، يصعب علينا أثناء مقاربتها الاقتصار على مسمى “المغرب” في الخريطة العالمية الحالية، لأن جذور تدين المغاربة الآن قد تجد لها امتدادت وتأصيلات ومناقشات وأصداء في الأندلس شمالا وفي تلمسان أو ما بعدها شرقا، والمغرب الحالي هو عصارة المغرب السابق، لذلك لا نجد حرجا في إيراد النماذج والتأصيلات لمظاهر التدين سواء من المغرب الحالي أو من المغرب الذي كان.
تنبيه: تتضمن هذه السلسلة عدة نقول واقتباسات، وقد آثرنا عدم إثقال مقالاتها بالحواشي والتوثيقات، فوجب التنبيه احتراما للقراء الكرام.
تعليقات الزوار ( 0 )