Share
  • Link copied

من كشمير إلى تندوف

لم تكن المواجهة العسكرية الأخيرة، التي تناقلت تفاصيلها وكالات الأنباء بكثافة، بين الجارتين النوويتين الهند وباكستان في منطقة كشمير مجرد حدث عسكري عابر، بل كانت في تقديرنا بمثابة جرس إنذار استراتيجي، أعاد إلى صدارة النقاش العالمي سؤالاً محورياً طالما شغل بال المخططين العسكريين وصناع القرار: هل تُحسم حروب اليوم، في القرن الحادي والعشرين بتعداد الجيوش وأطنان الأسلحة المتراكمة في الثكنات، أم أن الكلمة الفصل أصبحت لنوعية القوة، ومرونة العقلية العسكرية، والجاهزية التكتيكية المبنية على فهم عميق لمتغيرات القتال الحديث، وقبل كل شيء، على حكمة القيادة وقدرتها على دمج كل هذه العناصر في منظومة رادعة ومتفوقة؟

إذا وضعنا جانباً للحظة ضباب الحرب والدعاية المصاحبة التي تكتنف عادةً مثل هذه الأحداث والحرب الإعلامية، وافترضنا صحة ما يتم تداوله في تقارير متعددة وتحليلات متواترة من عدة مصادر من أن الهند، رغم تفوقها العددي والتقني الظاهر، ورغم تباهيها بأسلحة حديثة كطائرات رافال ومنظومات دفاع جوي متطورة، قد تكبّدت خسائر مؤلمة، بل ومفاجئة، جعلتها وفق هذه الروايات، تسارع إلى طلب هدنة مع باكستان لم تكن في حسبان اكثر المحللين العسكريين تشاؤما، فإن ذلك يرسل رسالة مهمة. رسالة تتجاوز حدود جنوب آسيا، لتصل مباشرة وبوضوح لا لبس فيه إلى منطقتنا في شمال إفريقيا، وتحديدًا إلى ساحة الصراع البارد والمقلق أحيانًا، بين الجارتين، المغرب والجزائر. إنه درس يجب أن نستوعبه جيدًا نحن المغاربة، وأن يدركه الطرف الآخر قبل فوات الأوان.

حينما ينهزم الكم أمام النوع

قد يرى الكثيرون، خاصة أولئك الذين لا يزالون أسرى حسابات الحرب الباردة، أن المقارنة بين العملاقين الآسيويين، الهند وباكستان، والجارتين المغاربيتين، المغرب والجزائر، هي مجرد افتعال جغرافي لا يستقيم. لكن، إذا تجاوزنا السطح، وتعمقنا في جوهر الأمور، سنجد تشابهًا هيكليًا في منطق بناء القوة، وفي بعض الانقسامات الإيديولوجية التي، للأسف، لا تزال تغذي التوتر وتدفع نحو سباق تسلح محموم في منطقتنا. الجزائر، على غرار ما يُفترض عن الهند في هذا السيناريو الكشميري، تستند في بناء قوتها العسكرية إلى ترسانة ضخمة من الأسلحة التقليدية، جزء كبير منها موروث عن حقب ماضية أو مكتسب عبر صفقات سلاح مهولة وفية للعقيدة الإشتراكية والخردة السوفياتية، فهذا يظهر أنها تعتمد على الكمّ أكثر من تركيزها على التكامل النوعي والتشغيل البيني المتقدم مع منظومات متكاملة وذكية وحديثة. إن إنفاقها العسكري الذي يعتبر الأضخم في إفريقيا يعكس سعيًا حثيثًا لامتلاك أعداد كبيرة من المنصات الروسية والصينية والبهرجة وشراء التحالفات والمجاملات بأموال السلاح، هذا النهج موجه بالأساس لإبهار الداخل أكثر من ردع الخارج.

أما المغرب في المقابل، تبنّى على مدى العقدين الماضيين استراتيجية مختلفة جذريًا، استراتيجية حكيمة وبعيدة النظر تعكس نضج وبصيرة قيادته، والتي يبدو أنها استوعبت مبكرًا دروس تحولات الحرب الحديثة ومتطلبات الأمن القومي للمملكة. فالمغرب يعتمد بشكل متزايد على نوعية السلاح، وعلى تنويع مصادره بانفتاح مدروس على أحدث ما تنتجه التكنولوجيا الغربية، وعلى دمج هذه القدرات ضمن عقيدة قتالية مرنة وحديثة تتطور باستمرار. هذا النهج الحكيم مدعوم بتحالفات استراتيجية وثيقة ومتينة مع جيوش متقدمة، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية التي تعتبر المغرب حليفًا رئيسيًا من خارج الناتو، وإسرائيل التي شهد التعاون معها، بعد استئناف العلاقات، قفزة نوعية في المجالات الدفاعية والتكنولوجية، إضافة للحلفاء الأوروبيين، مع الإحتفاض بعلاقات متميزة مع كل القوى الفاعلة والمؤثرة بالعالم بدون التورط في صفقات اسلحة غير مدروسة هدفها المجاملات الإديولوجية كما تفعل الجارة الشرقية.

فكما تابعنا كون باكستان استخدمت منظومات قد تكون أقل كلفة إجمالية ولكنها موجهة بدقة، ومبنية على تكتيك ذكي وخداع إلكتروني متقدم لتحييد تفوق الخصم، فإن المغرب، بقيادته الرشيدة، لا يسعى بالضرورة إلى استعراض القوة بعدد الدبابات أو الطائرات. بل إن فلسفته العسكرية تتجه نحو تحقيق التناغم الفعال بين السلاح ومنظومات الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع المتقدمة، مثل الطائرات المسيرة المتطورة التي أثبتت فعاليتها في تأمين الحدود الشرقية للصحراء المغربية، وبين قدرات القيادة والسيطرة الحديثة، وتكنولوجيا الحرب الإلكترونية المتطورة، وبين بناء منظومة ردع متعددة الطبقات تشمل دفاعًا جويًا متطورًا ومقاتلات حديثة مجهزة بأحدث التقنيات، مثل طائرات F16 فايبير التي أصبحت المملكة جزءًا من سلسلة إنتاجها العالمية، والحصول على منظومات دفاع جوي متطورة، بما في ذلك نظام “باتريوت”، ومروحيات الأباتشي الهجومية، كما أن العديد من التقارير تحدثت على قرب حصول المغرب على مقاتلة “ف35” من الجيل الخامس، وجل هاته الأسلحة لا يتم بيعها إلا للدول الآمنة والحليفة لأنها أسلحة نوعية وإستراتيجية ويمكنها خلق الفارق بأي مواجهة عسكرية. إن هذا النهج المغربي الأصيل يركز على “التأثير” النوعي وليس مجرد “الحجم” الكمي.

العقلية قبل العتاد

إن ما قد يغفل عنه أو يتجاهله دعاة القوة الكمية والإستعراض الذين يعيشون على أوهام الماضي، هو أن الحروب لا تُدار فقط بما هو مكدس في المخازن من عتاد، بل بما هو راسخ في العقول من فكر وتدريب وخبرة، وبما هو متقد في القلوب من إرادة وطنية صلبة. التجربة الهندية في كشمير، تُظهر بجلاء أن امتلاك أحدث الطائرات المقاتلة أو أقوى منظومات الدفاع الجوي لا يضمن التفوق المطلق إذا لم تكن هناك عقيدة واضحة وفعالة لاستخدام هذه الأسلحة، وإذا لم يكن هناك تدريب ميداني مكثف يحاكي أسوأ السيناريوهات وأكثرها تعقيدًا، وإذا لم يكن هناك استعداد ذهني ونفسي لدى القادة والجنود للتعامل مع المفاجآت والتكيف مع متغيرات المعركة.

وهنا تمامًا، وبكل فخر واعتزاز، يكمن أحد الفروق الجوهرية التي تتضح معالمها بين القوات المسلحة الملكية، ونظيرها الجزائرية. فالجيش المغربي، بتوجيهات ملكية سامية، ينخرط بشكل دوري ومكثف في تدريبات مشتركة عالية المستوى مع قوات الناتو والقيادة الأمريكية في إفريقيا (أفريكوم)، وأبرزها مناورات “الأسد الأفريقي” السنوية، التي أصبحت نموذجًا للتعاون العسكري الدولي. هذا الاحتكاك المستمر بالجيوش المتقدمة يساهم في صقل المهارات وتحديث المفاهيم وتبني “عقلية عسكرية معاصرة” تتسم بالمرونة والاحترافية والقدرة على التشغيل البيني. كما أن تركيز المغرب على التفوق التكنولوجي، والحرب الهجينة، والأمن السيبراني، والمراقبة بأحدث التيكنولوجيا وإستخدام الأقمار الصناعية لتأمين الحدود، يعكس التوجه المغربي الرائد نحو استيعاب متطلبات الحرب المستقبلية وحماية مصالحنا العليا.

في المقابل، يبدو أن الجيش الجزائري، رغم تحديثه المستمر لترسانته، لا يزال في بعض جوانبه أسير خطاب “الجيش العقائدي” التقليدي، حيث قد يكون للولاء السياسي والاعتبارات الداخلية وزن لا يقل عن الكفاءة العملياتية البحتة. ورغم وجود تعاون عسكري مع بقايا المعسكر الشرقي، فإن عمق هذا التعاون وتأثيره على التغيير النوعي في العقيدة والتدريب يبقى ضعيفا والمناوارات التي يجريها الجيش الجزائري تبقى هزيلة ومحدودة وبعقلية قديمة ومع دول متواضعة، ولا يمكن أبدا مقارنتها بمستوى وكثافة ما يشهده المغرب، الذي اختار بوضوح طريق الحداثة والانفتاح على الخبرات العالمية المتقدمة.

رسالة لمن يهمهم الأمر

المواجهة الهندية الباكستانية، بينت انه مهما بلغ تعداد الجيش وعتاده فقد تجد نفسك في موقف الدفاع أو حتى التراجع التكتيكي تحت ضغط الضربات الدقيقة والموجعة. وهذا الدرس، نأمل أن يُفهم جيدًا في الجزائر. فامتلاك كميات هائلة من الأسلحة الروسية، مهما بلغت درجة تطورها، لا يُترجم تلقائيًا إلى تفوق حتمي على الأرض أو في الجو، خاصة عندما يكون هذا التراكم على حساب التنمية الحقيقية للشعب الشقيق.

والمغرب، بعون الله وتوجيهات جلالة الملك يسير بخطى حثيثة نحو الابتكار والتطوير التكنولوجي المستمر، وهو أكثر جاهزية من الناحية العملياتية بفضل التدريب النوعي والشراكات المتقدمة، ويمتلك شبكة دفاعية واستخباراتية واستباقية معقدة ومتعددة الطبقات، لا يمكن اختراقها بسهولة أو تحييدها. وهو يستطيع ردع أي خصم محتمل بسهولة، وحماية كل شبر من ترابنا الوطني المقدس، بما في ذلك أقاليمنا الجنوبية العزيزة.

الدرس الأكبر الذي يمكننا استخلاصه من “صدمة كشمير” هو أن “الحرب المحدودة” أو المناوشات الخطيرة قد تنشب في أي لحظة، خاصة في مناطق التوتر المزمن التي تغذيها أطراف لا تريد الخير للمنطقة. لكنها قد تنتهي أيضًا بسرعة حينما يصتدم من كان يعتقد أنه يمتلك تفوقًا ظاهريًا، بأنه لا يملك الغلبة الفعلية في الميدان، أو أن تكلفة الاستمرار في حماقاته ستكلفه غاليا. إن النهج التصعيدي والعدائي الذي تنتهجه الجزائر سواء في خطابها الذي يركز على استعراض القوة الكمية والشعارات البائدة، وتعيش أوهام الحرب الباردة دون أن تأخذ في الاعتبار التحول الجذري والعميق الذي شهدته المؤسسة العسكرية المغربية على مدى السنوات الأخيرة. هذا التحول، لا يقتصر فقط على نوعية التسليح، بل يمتد ليشمل طريقة التفكير الاستراتيجي، والعقيدة القتالية، والجاهزية العملياتية، واللحمة الوطنية القوية بين العرش والشعب والتهالفات الإقليمية والدولية القوية للمغرب

المستقبل للتعايش والسلام

إن الواقع اليوم لم يعد يُقاس بحجم الترسانات المكدسة ولا بالخطابات العسكرية المعلقة على أوهام التفوق العددي والتاريخي. فالمغرب، بحكمة وتبصر، وتحت القيادة الرشيدة لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله، اختار طريق البناء الهادئ والعمل النوعي، ونجح في تطوير منظومة دفاعية عصرية، تعتمد على الكفاءة والتكامل بين التكنولوجيا والتكوين البشري، دون إنهاك ميزانية الدولة، ووفق رؤية استراتيجية تضع في صلب أولوياتها حماية السيادة الوطنية والمصالح الحيوية، والانخراط في منطق التعاون والتكامل الإقليمي.

في المقابل، تواصل الجزائر للأسف الارتهان إلى منطق التشنج والتصعيد، مسجونة في سرديات الحرب الباردة، ومكبلة بشعارات عقيمة تستهلكها داخليًا للتغطية على الإخفاقات المتكررة. بدل مد اليد من أجل السلام والتكامل بين شعبين تجمعهما روابط الدم والمصير، تصر القيادة الجزائرية على تبديد مقدرات الشعب في سباقات تسلح استعراضية، واستعداء الجوار، وخلق أعداء وهميين لتبرير الجمود الداخلي وتصدير الأزمات.

غير أن الزمن لم يعد زمن الشعارات ولا الصخب الإعلامي. فمكانة الدول وقوتها اليوم تُبنى على قدرتها على توظيف ثرواتها في خدمة شعبها، ونجاعتها في بناء مؤسسات قوية، وشراكات فعالة، وثقة دولية راسخة. والمغرب، في هذا السياق، يقدم نموذجًا ناجحًا لقوة رزينة، متماسكة، ذات رؤية واضحة.

إن الإجماع الشعبي، والانضباط المؤسساتي، والقيادة المتبصرة، هي ما يمنح المغرب اليوم تفوقه الحقيقي ومناعته الإستراتيجية، وهو ما يجعل المملكة مستعدة دومًا، ليس فقط للدفاع عن نفسها، بل لقيادة مستقبل مغاربي أفضل، يسوده السلام والتعاون والتنمية المشتركة.

Share
  • Link copied
المقال التالي