في لحظة تنحسر فيها الكلمات عن ضجيجها، وتكشف الجوائز عن جوهرها، وُضع اسمي واسم كتابي حق الكدّ والسعاية على لائحة الفائزين بجائزة الشيخ زايد للكتاب، في دورتها التاسعة عشرة، عن فرع “التنمية وبناء الدولة”. لم يكن التتويج مجرّد احتفاء بنصّ، بل إشعارًا بأن الفكر حين يكون نابضًا بالحياة، مشدودًا إلى قضايا الناس، وقادرًا على ملامسة المسكوت عنه، فإنه لا بد أن يبلغ مداه، ولو بعد حين.
لم أكتب هذا الكتاب من مقام التنظير الأكاديمي البارد، ولا من موقع الانبهار بإرث فقهي صامت، بل كتبته من قلق معرفي، ومن حسٍّ إنساني يرى أن هناك حقوقًا لا تزال موؤودة في قوالب تأويلية متكلسة. استعدتُ مفهوم الكدّ والسعاية من بين طبقات النسيان، وأعدت قراءته لا كقضية فقهية جزئية، بل كمنظور يعيد التوازن داخل الأسرة، ويمنح الشراكة أبعادها المادية والمعنوية، وفق روح الشريعة ومقاصدها العليا. فالمرأة التي شاركت زوجها بناء البيت، وبذلت جهدًا لا يقل عن الكدّ الخارجي، تستحق أكثر من العرفان العاطفي، تستحق أن يُوثق عرقها في بنية القانون.
إن تتويج هذا العمل من قبل جائزة الشيخ زايد للكتاب لم يكن مجرد اعتراف بجهد بحثي، بل كان تعبيرًا عن التحام النصّ مع نبض المجتمع، ووعي المؤسسة بأهمية النصوص التي تستنهض الممكن داخل التراث، وتعيد تفعيل المهمل لصالح حاضرٍ أكثر توازنًا. لقد كنت أوقن دومًا أن الكتابة ليست ترفًا ولا زخرفة، بل مسؤولية تتطلب شجاعة في التنقيب، وجرأة في الطرح، وصدقًا في الموقف. وهذا ما حاولتُ أن ألتزمه، كلمة بكلمة، وسطرًا بسطر.
ورغم أنني عشت سنوات طويلة في فرنسا، حيث تترسّخ ثقافة الحقوق والمواطنة، فإنني وجدت في تجربتي الثقافية بدولة الإمارات فضاءً معرفيًا وإنسانيًا لا يقل وعيًا، ولا أدنى التزامًا بقيم الإنصاف والكرامة. لقد تشرفت بالانخراط في المشروع الحضاري لسيدي صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، الذي ارتقى بمكانة المرأة في المجتمع، ومنحها ما تستحقه من تمكين واستحقاق، على خطى الوالد المؤسس، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيّب الله ثراه، الذي كان رائدًا في تثبيت قيم الشراكة داخل الأسرة والمجتمع، بعيدًا عن أطر الوصاية، وأقرب إلى منطق التقدير الفعلي.
هذه الجائزة، بما تحمله من رصانة ومكانة، ليست تكريمًا لشخصي، بل لمضمون أراد أن يردّ الاعتبار لصوت غُيّب طويلًا. هي منصة لا لتوثيق ما مضى فحسب، بل لإطلاق ما ينبغي أن يأتي من اجتهادات، تكرّس مفهوماً أكثر إنسانية للعلاقات داخل البنية الأسرية، وتكسر صمت القوانين التي لم تواكب بعد حركة الواقع.
في النهاية، لم يكن حق الكدّ والسعاية إعادة تدوير لمصطلح فقهي، بل مشروعًا معرفيًا يعيد ترتيب الأولويات، ويعيد توجيه البوصلة نحو ما يجعل من الفكر قوة اقتراح لا مجرد سرد للمأثور. وما تتويجه اليوم إلا إشارة إلى أن الأفكار حين تُكتب بضمير، لا تموت في الهامش، بل تصعد إلى المنصات، وتُقرَأ على الملأ.
أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة
الفائز بجائزة الشيخ زايد للكتاب 2025 عن فرع التنمية وبناء الدولة
تعليقات الزوار ( 0 )