في لحظةٍ تختلط فيها الجغرافيا بالعقيدة، والسياسة بالأخلاق، أطلّ القرار الأممي الأخير الداعم لمبادرة الحكم الذاتي المغربي في الصحراء، كفجرٍ جديدٍ يبشّر بعصرٍ من لمّ الشمل المغاربي والعربي. لم يكن القرار مجرّد انتصارٍ سياسيٍّ أو دبلوماسيٍّ فحسب، بل كان ـ في جوهره ـ اعترافًا أمميًّا بقدرة العرب، حين تتوحد إرادتهم، على تقديم حلولٍ واقعيةٍ تنبع من رحم الشرعية، وتزدان بحكمة القيادة ورسوخ الفكرة.
لقد قال جلالة الملك محمد السادس في خطابه التاريخي ليلة الواحد والثلاثين من أكتوبر 2025: «ها نحن نبدأ بعون الله فتحًا جديدًا في مسار ترسيخ مغربية الصحراء، والطي النهائي لهذا النزاع المفتعل، في إطار حلٍّ توافقيٍّ على أساس مبادرة الحكم الذاتي». هذا “الفتح المبين” الذي تحدّث عنه جلالته، ليس فتحًا ترابيًّا بالسيف، بل فتحٌ قيميٌّ بالعقل، انتقل فيه المغرب من منطق الدفاع إلى منطق البناء، ومن خطاب المطالبة إلى منطق المشاركة، ومن لغة التاريخ إلى صناعة المستقبل.
هذا القرار الأممي، الذي وقف إلى جانبه المجتمع الدولي بأقطابه الكبرى — من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وإسبانيا والبرتغال — ومعهم الأشقاء العرب في طليعتهم دولة الإمارات العربية المتحدة، يعيد رسم معالم خريطة جديدة في العلاقات الإقليمية، عنوانها: الشرعية بدل الفوضى، والتعاون بدل القطيعة، والمبادرة بدل الانتظار. فالمغرب لم يدافع فقط عن ترابه الوطني، بل قدّم للعرب نموذجًا في التصرّف الأخلاقي المتوازن، حيث تتجلّى الدبلوماسية في أنبل صورها: دبلوماسية الكرامة، والعقل، والمصلحة المشتركة.
اليوم، ومع ما أعلنه جلالة الملك من عزم المملكة على “تحيين وتفصيل مبادرة الحكم الذاتي لتقديمها للأمم المتحدة كأساس وحيد للتفاوض”، فإنّ الباب يُفتح على مصراعيه لمرحلةٍ جديدةٍ من السلم والتلاقي. إنها فرصة لتجاوز صراعات الماضي، وطيّ صفحات سوء الفهم، واستعادة صلة الرحم التي انقطعت بين الأشقاء بفعل السياسة، لا بفعل الشعوب. إنّها ساعة الحكمة، التي يتقدّم فيها صوت العقل على ضجيج التاريخ، ويعلو فيها منطق الأخوّة على صخب المصالح.
وفي هذا السياق، يبرز البعد المغاربي الذي حمله الخطاب الملكي حين دعا جلالته أخاه فخامة الرئيس عبد المجيد تبون إلى “حوارٍ أخويٍّ صادقٍ بين المغرب والجزائر، من أجل تجاوز الخلافات، وبناء علاقات جديدة تقوم على الثقة وروابط الأخوّة وحسن الجوار.” إنها ليست مجرد دعوة دبلوماسية، بل نداء صادق من قلب العرش إلى قلب الأمة. نداء يتجاوز الجغرافيا والحدود، ليستنهض الروح التي جمعت المغاربة والجزائريين والتونسيين والليبيين والموريتانيين يوم كانت فكرة الاتحاد المغاربي مشروعًا حيًّا نابضًا بالأمل.
ولعلّ ما يميّز هذا التحول التاريخي أنه يعيد الاعتبار إلى فقه المصلحة الجماعية في السياسة العربية، وهو فقهٌ أصيل في تراثنا، يُوازن بين الحقّ والواقع، ويجعل حفظ الكيان أولى من نزاعات الهويّة. إنّ مبادرة الحكم الذاتي ليست تنازلًا عن السيادة، بل هي اجتهاد سياسيّ أصوليّ ينقل مفهوم “السيادة” من منطق الاحتكار إلى منطق المشاركة، ومن مركزية الدولة إلى شرعية المواطنة. وهي بهذا المعنى، تجسيدٌ لمقاصد الشريعة في حفظ النفس والعرض والوطن، عبر الحوار لا الصدام، وعبر المشاركة لا العزلة.
وإذا كانت الأمم تُقاس بقدرتها على تحويل الأزمات إلى فرص، فإنّ المغرب اليوم يُقدّم للعرب وللعالم برهانًا جديدًا على أن السلام ليس انكسارًا، بل فنّ إدارة الاختلاف في ضوء المقاصد العليا. وما هذا القرار الأممي إلا ثمرة حكمةٍ راكمتها المملكة عبر نصف قرن من العمل الدؤوب، الدبلوماسي والمؤسسي والإنساني، حيث امتزجت فيه الرؤية الملكية بالممارسة الواقعية، فصنعت التوازن بين مبدأ العدل ومبدأ الاستقرار.
إنّنا اليوم، أمام لحظةٍ فاصلة، تفرض على دول المغرب العربي، بل على الأمة العربية كلها، أن تغتنم الفرصة التاريخية التي أتاحها القرار الأممي. فلن يكون المستقبل لمن يرفع الشعارات، بل لمن يمدّ اليد. ولن تقوم النهضة المغاربية إلا على جسرٍ من الثقة، لا على جدارٍ من الخلاف. فالحكم الذاتي في الصحراء ليس نهاية نزاعٍ إقليمي، بل بداية وحدةٍ إنسانية، تستردّ فيها الشعوب حقها في العيش المشترك، والعمل المشترك، والمصير الواحد.
إنّ دعوة صاحب الجلالة للحوار ليست سياسية فحسب، بل رسالة روحية إلى الضمير العربي بأنّ صلة الرحم التي قطعتها السياسة يمكن أن تعود، وأنّ ما فرّقته المصالح توحّده القيم. وإنّ من الوفاء للأجيال القادمة أن نحول هذه اللحظة إلى مسار بناء لا صراع، إلى عهد من التكامل لا القطيعة، إلى مشروع سلامٍ مغاربيٍّ وعربيٍّ يكون المغرب بوصلته، والعقل ميزانه، والمصلحة المشتركة ميثاقه.
هكذا تتحول قضية الصحراء من نزاعٍ سياسيٍّ إلى درسٍ حضاريٍّ في فنّ تدبير الاختلاف، ومن حدودٍ مرسومةٍ على الرمال إلى جسورٍ مرسومةٍ في القلوب. فالمغرب اليوم، وهو يمدّ يده للسلام، يُعيد للأمة روحها، وللاتحاد المغاربي نبضه، وللعرب أملهم في أن يتكاملوا لا أن يتقاطعوا، وأن يُبدعوا مستقبلهم بأيديهم، لا بأقلام الآخرين.
إنها ساعة الأمل، لا ساعة الحساب. ساعة الأخوّة، لا ساعة المزايدة. وساعة الوفاء للأرض والتاريخ والإنسان، لا ساعة الانقسام.
وستبقى الصحراء المغربية، كما أرادها الله، أرضًا للّقاء لا للفُرقة، ومنطلقًا لوحدةٍ عربيةٍ ومغاربيةٍ قادمةٍ بإذن الله، عنوانها: من الحكم الذاتي إلى وحدة الذات.

تعليقات الزوار ( 0 )