عندما تقول للناس ما يحبون سماعه فإنهم يلتفون حولك ويغمرونك بالثناء، والمديح، لأنك تخاطب غرائزهم ورغباتهم وما يشتهون، وذلك حال السياسة لأنها تعتمد مقولة مفادها اكذب ثم اكذب حتى يقتنع سامعوك، وعلى هذه المقولة تقوم الأعلانات والإشهارات للمواد الاستهلاكية، إلتي تؤدي إلى ترسيخ الصور في الأذهان، بواسطة الإيحاءات والتكرار، والسياسة تبعا لذلك هي فن الكذب الجميل. والجماهير تقع تحت تخدير الأوهام، وتنساق وراء الكلمات البراقة الرنانة، لأنها تخاطب الرغبة، لا لأنها تخاطب العقل، بواسطة الحق والبرهان، فكل حجج الدنيا وأدلتها لا تقنع الناس ولو كانت واضحة وضوح الشمس، إذا كانت هذه الحقائق تعارض ما تربوا عليه وما ألفوه، و ترسب في أذهانهم أنه الحق، ولهذا صح قول نبتشه أن القوة تخلق الحق، ولا يخلق الحق القوة، ولذلك عانى أصحاب الرسالات الكبرى مع الشيوخ، لأنهم كانوا أكثر تمسكا بالأعراف السائدة، التي تخدم مصالحهم الاقتصادية.
ولذلك قال القريشيون للرسول صلى الله عليه وسلم هذا ما وجدنا عليه أبناءنا، ولدلك كانوا أكثر عنادا ورفضا للدعوة، رغم أنهم في قرارة أنفسهم كانوا يعرفون الحقيقة، ولكن كبرياءهم ،وكونهم سادة العرب، كان يمنعهم من الاعتراف، إنها العزة بالنفس، والمصالح والخوف على ضياعها، ولذلك فإنك إذا قلت لمن كان بالأمس يقول في حقك الكلام المعسول كلاما يكرهه، فاعلم أنه إنما كان يمدح ما يحب،أن يسمع، لا لأنه كان يحب الحقيقة أينما وجدت وحيثما سارت، ولكن و مع ذلك لم تكن أبدا في يوم من الأيام الحقيقة بيد الأكثرية، بل إنها دوما كانت محصورة عند خاصة الخاصة، من النخبة التي تتمتع بالمصداقية والشرف، والنبل الفكري غير المتحيز، والدليل على ذلك واقع في التاريخ، مع المفكرين العظماء، فسقراط رفضت أفكاره من الحكومة والغوغاء وحكمت عليه بالإعدام، لأن فلسفته لم تكن على هوى الناس وكذلك كان شأن عدد من العلماء والفلاسفة والمفكرين.
فابن رشد مثلا، رغم أنه كان فقيها مالكي المذهب وكتب بداية المجتهد ونهاية المقصتد، ولم يشفع له ذلك، لأنه كان مفكرا وفيلسوفا حرا ولأنه شرح أرسطو، وحاول أن يوفق بين الحكمة والشريعة في كتابه فصل المقال ، إلا أن الفقهاء ثاروا ضده واوغروا صدر السلطان يعقوب المنصور الموحدي فأحرقت كتبه وتم نفيه إلى المغرب، حيث مات، وكذلك وقع مع جاليليو الذي تم حرقه، لأنه قال بكروية الأرض، ورغم أنها الحقيقة، فالناس لم تقتنع بكلامه، وحكمت عليه الكنيسة بالهرطقة، لأن ذلك كان يهدد مصالح حزبها وطائفتها، وقد كان القرن السابع عشر الثامن عشر قرن المحاكمات، وشبنهاور الفيلسوف الألماني العظيم أهمل وأعرض عنه العامة وكان كتابه العالم كإرادة Le Monde comme volonté et comme représentation يباع في دكاكين البقالة، رغم أنه أثر فيما بعد في كل الفلسفة الأوروبية، وفي نتشه وفلسفته حول القوة والإنسان السامي. قال كل الأشياء خاضعة للتأويل ، وأيا كان التأويل فهو عمل القوة لا الحقيقة. – فريدريش نيتشه (فيلسوف ألماني).
كما أثر آرثور شوبنهاورز في فرويد وغيره، ورغم كل ذلك انفض عنه الناس، لأنه لم يقل لهم ما يحبون، بل إنه على العكس من ذلك، قال لهم ما يكرهون، وهو يعلم أن مخاطبة الرغبة هو ما يؤدي إلى الإقناع، وليس مخاطبة العقل.
مع الأسف الجماعة والطائفة والحزب، تخلق الولاء للطائفة من أجل المصلحة، قبل الولاء للحقيقة، ولهذا فإنهم غالبا يتبادلون التصفيق لأنفسهم، اعتقادا منهم أنهم على الحق وهم في الحقيقة على الباطل، وكذلك كانت النازية، والدواعشية.
ولكن َوعلى الرغم من ذلك لا يجب الالتفات الجموع والتصفيق ، فالأولى قول الحقيقة على الانتشاء بالأطراء والمدح، والتفكير بنزاهة، ولو أدى الأمر إلى هجران الأخ والصديق، فالحقيقة أولى منهم بالاتباع، وهي لا تسكن أو تقيم في مكان واحد، إنها نسبية، تكون هنا وهناك، يجب أن نفتح قلوبنا وعقولنا وصدورنا، ونتخلص من الانغلاقية والوثوقية والدوغمائية، ونفكر في كل شيء بصفاء ذهن غير متأثر بهوى أو مجاملة خل أو صديق، لأنه لا ينفع يومئد أحد، إلا من أتى الله بقلب سليم قال الله تعالى :(ٱلْأَخِلَّآءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا ٱلْمُتَّقِينَ) صدق الله العظيم فيومئذ يلوم الصديق صديقه والخل خليله ، يقول الله تعالى : ﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا (27)يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا (28)لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولا (29) ﴾ [الفرقان:27ـ29] هذه الآيات أوردها في هذا السياق من باب الاستدلال، وليس من باب الوعظ والإرشاد فكل نفس بما كسبت رهينة. فذلك أمر له أهله وأصحابه.
يجب في رأيي أن نفرغ عقولنا مما ترسخ فيها من أفكار وأعراف ومعلومات، وأن نقبل على الدرس الفلسفي وليس بأيدينا إلا المعرفة والعلم والشك، في جميع المقالات والأطروحات، معتمدين على أدوات النقد والتفكيك، دون محاباة أو عطف ، حتى على أنفسنا وأفكارنا َ وأكثرها حميمية َوحتى لو تعلق الأمر بمبادئنا الأولى التي تربينا عليها والفناها واعتقدنا أنها الحقيقة الكلية.
*محام بهيئة القنيطرة
تعليقات الزوار ( 0 )