Share
  • Link copied

مناهضة التطبيع وأزمة العمل الوحدوي: حين يقيّد السقف السياسي إمكانيات الالتقاء

على هامش الجدل الذي أثاره بيان الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع بمدينة طنجة، والذي عبّرت فيه مكوّناتها عن رفضها لأي تقارب ميداني مع الهيئات التابعة لحزب العدالة والتنمية، يحاول هذا المقال بسط رؤية حول أزمة العمل المشترك بين هاته الأطراف، ساعيًا إلى مقاربتها بهدوء وبعيدا عن لغة الخشب، وبأفق يجنّب الاصطدام الذي لا يخدم أحدًا. الهدف ألا يظل هذا الملف رهينًا لانفعالات ميدانية، في وقتٍ تتطلّب فيه المرحلة تبصّرًا أعمق بحجم ما هو على المحك، واستيعابًا لعمق الأزمة وأسباب تعذّر التنسيق الميداني الفاعل.

تؤاخذ الجبهة على حزب العدالة والتنمية أن أمينه العام السابق هو من وقّع باسم الحكومة على وثيقة تطبيع النظام المغربي مع “الكيان” دون أن يتخذ الحزب أي إجراء رسمي يُعبّر عن استنكار يليق بحجم الفعل. بل واصل قيادة الحكومة التي أشرفت على تنفيذ مقتضيات ذلك التطبيع، وبلغ الأمر حدّ أن أعلن أحد وزراء الحزب استعداده لزيارة “الكيان”، في سابقة خطيرة، بينما ظل الحزب صامتًا، وكأن شيئًا لم يكن، ولم يصدر عنه أي موقف مؤسساتي يُوازي فداحة ما تورّط فيه.

ولم يستفق الحزب إلى صنيع قيادته إلا بعد خسارته الكبيرة في الانتخابات التشريعية 2021، التي جاءت صادمة في عمقها السياسي والرمزي. فسارع إلى تنظيم مؤتمره الوطني الاستثنائي بعد أقل من شهرين على هزيمته، حيث تم انتخاب قيادة جديدة. وانتُظِر من هذه القيادة أن تبادر بإصدار بيان يقف عند سلوك الحزب السابق، سواء بالتبرير المعقول أو بالاعتذار الواجب، بما يرقى إلى مستوى مسؤولية حزب طالما اعتبر القضية الفلسطينية من أولوياته العقائدية والسياسية. لكن ما صدر عنها لم يكن بالمستوى المطلوب، إذ انحصر خطابها في تحميل المسؤولية لشخص الأمين العام السابق، بصفته الحكومية، ومن كان معه من وزراء الحزب، في تنصّل غير مبرَّر من المسؤولية السياسية التي يتحملها الحزب ككل.

اليوم، ما تطلبه جبهة المناهضين للتطبيع من الحزب لإنضاج العمل الوحدوي، هو بيان اعتذار واضح وصادق، ينزع عنه عبء التواطؤ، ويحول دون تمييع جبهة مقاومة التطبيع، التي تحتاج إلى قدر من الوضوح الأخلاقي الذي يسبق أي اعتبار سياسي.

وردًّا على هذا المطلب، ترتفع أصوات من داخل الحزب، منافحةً بالقول إن من وقّع فعليًا على اتفاق التطبيع هو رأس النظام، وأن رئيس الحكومة كان مغلوبًا على أمره، لا يملك من الأمر شيئًا سوى مسايرة القرار، وأن أي اعتراض من الحزب على توقيع أمينه العام كان سيُفهم آنذاك كصدام مباشر مع الدولة، وهو ما لا يمكن للحزب الإقدام عليه.

وفي نظر المنتقدين، فإن هذا القول بالذات هو ما يُؤكد الحاجة إلى بيان اعتذاري واضح. إذ ما قيمة أن يخرج حزب ما في مسيرة تندّد بالتطبيع، ثم يُشارك في تنزيله من موقعه الحكومي، بحجة تجنّب الصدام مع الدولة؟ فإذا كان الحزب وفق رؤيته للإصلاح من الداخل يقرّ بأن موقع الفعل الحقيقي للحزب السياسي هو داخل المؤسسات التمثيلية، لا في الشارع، فلماذا يروّج خارجها أنه مناهض للتطبيع، وهو يعترف بعجزه عن معارضته حيث ينبغي أن تقع المعارضة؟

ويضيف بعضهم، بكلام أشد انتقادًا، أنه قد أصبح سلوكًا مكشوفا لا ينطلي على أحد احتماءُ الحزب وراء شعار “العمل الوحدوي في الشارع”، ما دام باب المؤسسات التمثيلية ضيّقًا أمامه، ثم انقلابه على شعارات الشارع متى وُفّر له الولوج إليها بالحجم الذي يُرضيه، وصمته على تكسير رؤوس أصحابه وسجنهم، بذريعة التكتيك السياسي والموقع الحكومي.

ويعتقد هؤلاء المنتقدون لسلوك الحزب أن هذا التناقض الصارخ بين الخطاب في الشارع والممارسة داخل المؤسسات التمثيلية هو ما أفقد الكثير من الفاعلين السياسيين مصداقيتهم، وأضعف ثقة الناس في العمل السياسي. فالناس لم تعُد تنخدع بالشعارات، بل تراقب المواقف في لحظة الاختبار، والاختبار الأكبر كان يوم وقّعت الحكومة، التي يرأسها الحزب، على اتفاق التطبيع، دون أن ينبس الحزب بكلمة.

ولذلك، لا ترغب الجبهة في الارتباط بفاعل حزبي ما يزال مترددًا في الحسم، وعاجزًا عن الاعتراف بخطئه، ومصممًا على الجمع بين خطاب مناهض للتطبيع خارج المؤسسات، وممارسة مهادِنة داخلها. إذ إن بناء جبهة صلبة لمواجهة هذا المسار يقتضي حدًّا أدنى من الانسجام الأخلاقي والسياسي، لا يمكن بلوغه من دون مراجعة جريئة ومسؤولة من الحزب لموقفه، تبدأ ببيان اعتذار صريح يعيد الثقة، ويؤسس لإمكانية التقاطع مستقبلًا.

طبعا، للحزب كامل الحق في أن تكون له رؤيته الخاصة في سلوكه السياسي، وفق نهجه الإصلاحي. وأنا هنا أبتعد عن التخوين أو التشكيك في النوايا، بل أرجّح صدقه في تمثّل هذه الرؤية. وما وقع، في تصوري، هو أنه حين قرّر النظام المضي في مسار التطبيع مع الكيان، وجد الحزب نفسه في تناقض صارخ مع أطروحته الإصلاحية؛ إذ إن مقتضى الوفاء لمبادئه الأساسية كان يوجب ألا يُقدِم أمينه العام على توقيع وثيقة التطبيع تحت أي ظرف. وإلا عُدّ الحزب شريكًا في هذا المسار، ولو بحكم الامتثال والتنفيذ، وانطبق عليه المثل الشهير: “قلوبنا مع علي، وسيوفنا مع معاوية”؛ أي بلغة أكثر وضوحًا: “قلوبنا مع المناهضين للتطبيع، وسيوفنا مع المطبّعين”.

غير أن هذه الأطروحة، كما يتبناها أصحابها، تفقد جدواها من دون تموقع معتبر داخل المؤسسات التمثيلية. وهذا، في تقديري، ما دفع الحزب إلى الإحجام عن إصدار بيان اعتذار واضح، خشية أن يُغلق أمامه باب هذه المؤسسات، أو تُسدّ في وجهه إمكانية العودة إلى الحكومة مستقبلًا. فرفضه لهذا البيان لا يبدو نابعًا من غموض في الموقف المبدئي، بل من حرص استراتيجي على إبقاء الباب مواربًا أمام إمكانية “صفقة” سياسية مستقبلية مع النظام، إذا ما اشتدت عليه الضغوط السياسية أو الاجتماعية، كما كان الحال إبّان حراك 20 فبراير.

والأمين العام الحالي للحزب، الذي يجسّد أطروحة الحزب الإصلاحية خير تجسيد، يُدرك بدقة موازين القوى داخل “دار المخزن”، وهو أكثر من يعي أن إصدار بيان اعتذار صريح قد يُفسَّر على أنه تمرد على أصحاب الدار وقطعٌ لشعرة معاوية. لذلك، يُبقي الخطاب في منطقة التنديد المحسوب: غاضبا في الشارع، متفهّما داخل المؤسسات، ليمنح الحزب هامشًا للمناورة، في انتظار لحظة سياسية جديدة مواتية.

ولعبُه هذا على حبلين -حبل رفع الصوت في الشارع طلبًا لشعبية جماهيرية، وحبل خفض الصوت داخل المؤسسات تفاديًا لمصادمة صاحب القرار، طمعًا في أن يقتنع العقل السياسي المخزني بجدوى القبول به كبديل معتدل، بسقف إصلاحي متدنٍّ في مقابل خصوم أكثر جذرية ورفعًا للسقف- يُحسب، في نظر عدد من مناهضي التطبيع، نهجًا سياسيًا أثبتت التجربة أن أفقه مسدود.

ومن ثَمّ، يعتبر هؤلاء أن رهن جبهة مقاومة التطبيع بنهج تدافعي فاشل، لا يرغب الحزب في تطويره، بل يُصرّ على جرّ المغاربة إليه، كما جرّ جزءًا منهم سابقًا إلى وهم “الاستثناء المغربي”، ليس سوى تكرار لخدعة انتهت إلى ما نعيشه اليوم من فساد ممنهج، وقمع متصاعد، وتغوّل متزايد للسلطوية.

وعليه، ولكل تلك الأسباب، لا يبدو لي أن أفقًا وحدويًا ممكنًا في المدى القريب بين مكوّنات الجبهة وهذا المكوّن الحزبي، للأسف. لكن ذلك لا يبرّر الانجرار إلى الصدام أو التراشق بالبيانات والتدوينات الانفعالية؛ فالميدان يتّسع للجميع، وقضية بهذا الحجم لا تحتمل التشويش بمعارك جانبية لا طائل منها.

وبشيء من التعقّل وضبط النفس، يمكن لمناهضي التطبيع أن يتفادوا الوقوع في فخّ إشغالهم ببعضهم بعضًا، بما يصرفهم عن مواجهة مشروع التطبيع الزاحف، الذي يمضي بتحدّ صارخ لا يعبأ بالإرادة الشعبية. وما دام الجميع يدّعي صدق تبنّيه للقضية، فليعمل كلٌّ في زاويته، وعلى شاكلته وقناعته، من دون محاولات ركوب لا ترقى إلى مستوى النضج المطلوب.

فالرهان الحقيقي ليس على توحيد المواقف في كل التفاصيل، بل على توحيد البوصلة، والإخلاص للقضية، كلٌّ بما يستطيع، من موقعه، دون أن يتحوّل الخلاف في السبل إلى افتراق في الأهداف.

*باحث في العلوم السياسية

Share
  • Link copied
المقال التالي