فرضت الأزمة التي يعاني منها العالم اتخاذ قرارات تمكن من تدبير الشأن العام بالبلاد في مختلف المجالات والميادين. كذلك الحال فيما يخص التعليم، والحديث هنا عن تقنية التعليم عن بعد التي تمكن من تفادي انتشار عدوى كوفيد 19. لكن ومع بداية الموسم الدراسي الجاري طرحت إمكانية الاختيار بين التعليم عن بعد والتعليم الحضوري مع ضرورة تحمل الآباء المسؤولية في حال إصابة أبنائهم بالعدوى. لذلك أضحى الآباء أمام اختيارين إما تعليم حضوري يمكن أبناءهم من التعلم بطريقة جماعية تعتمد المشاركة، وإما تعليم عن بعد بشكل فردي أمام شاشات الهواتف والحواسيب.
يرافق كلي الاختيارين خوف والعديد من الأسئلة. خوف من الإصابة بالعدوى في صفوف المدرسة. وسؤال يتلخص في مدى نجاعة تجربة التعليم عن بعد في ظل عدم تساوي الظروف الاجتماعية والمادية.
من المعلوم أن التعليم الحضوري قائم على إعطاء الدروس في الصف حيث يكون التلاميذ وجها لوجه مع الأستاذ، بالإضافة إلى أن التعليم الحضوري يعمل على إشراك التلميذ في بناء الدرس. حيث يكون على اتصال مباشر مع الأستاذ ويتمكن من التفاعل معه. وفي المقابل يكون الأستاذ قادرا على تقييم التلميذ وتحديد نقاط القوة والضعف لديه.
أما التعليم عن بعد فيعتمد على الحواسيب والأدوات الإلكترونية، باتخاذه الصوت والصورة مصدرا للمعرفة والعلم، وبذلك لا يستلزم مبنى تعليميا أو صفوفا دراسية. ومنه يستطيع التلميذ التعلم في أي مكان وأي زمان. وهذا ما أكده أستاذ التعليم الثانوي التأهيلي عبد السلام جليط بقوله:” ينبغي أن نقّر بداية بأنّ “التعليم الحضوري” هو الشكل الأصلي والأساسي للتعلّم، أمّا “التعليم عن بعد” فهو مجرد حلّ اضطراري وليس اختيارا للدولة أو المجتمع، كما أنّ اعتماده كشكل للتعليم ينبغي أن يوضع في سياقه، وهو سياق الجائحة، حيث أصبح كل شيء يمارس عن بعد، والتفكير في حماية حياة المواطنين كان هو المحرّك الأول، وإذا كان الحال كذلك، وفي ظل الواقع التعليمي المغربي، فيمكن القول إنّ التعليم عن بعد قد استطاع أن يحقق بعضا من أهدافه، لكنه بطبيعة الحال لا يقارن أبدا بأهمية ونجاعة التعليم الحضوري”.
ومع تزايد حالات الإصابة بالفيروس في مناطق مختلفة بالمملكة فإن العديد من المؤسسات اضطرت إلى إغلاق أبوابها، وبالتالي أصبح التعليم عن بعد مفروضا على المتمدرسين بهذه المؤسسات مما يطرح إشكالية اختلاف طرق التعلم والتلقين وبالتالي مردودية التلاميذ ومستواهم التعليمي.
هذا ما يؤكده مدير إحدى المؤسسات الابتدائية في تصريح لجريدة “بناصا” إذ يقول:” إن المستوى التعليمي يختلف بين التلاميذ الذين تمكنوا من الحصول على تعليم حضوري والآخرون الذين حصلوا على تعليم عن بعد لأن التعليم الحضوري يعتمد على مشاركة التلميذ في بناء المعرفة بالاعتماد على البصر والسمع، وأيضا الضبط والانضباط داخل الأقسام. على خلاف التعليم عن بعد لتواجد منغصات داخل البيت وكذلك مشاكل متعلقة بالجانب المادي والانترنت”.
لا يخفى على أحد أن جميع المؤسسات توقفت منذ بداية الجائحة بهدف الحد من انتشار الفيروس، وبذلك اعتمد المتمدرسون لما يقارب ستة أشهر على تقنية التعليم عن بعد، وللأسباب السالفة الذكر لا يمكن أن يكون التعليم عن بعد مساويا للتعليم الحضوري مما يدفعنا للتساؤل حول مستوى التلاميذ في بداية الموسم الدراسي الحالي مع انطلاق أسابيع التقويم التشخيصي للمكتسبات السابقة يصرح العديد من الأساتذة أن هناك تراجعا كبيرا في درجة التحصيل وجودة التعليم لأسباب تعددت واختلفت باختلاف المناطق والفئات العمرية والطبقات الاجتماعية. إذ لا يمكن أن نتحدث عن تراجع مستوى المتعلمين في العموم، حيث توجد فئات استفادت لظروف خاصة.
ونجد لهذا أثرا في تصريح الأستاذ عبد السلام جليط إذ:” التعليم هو عملية تواصلية، تفاعلية ووجدانية، وهي شروط لا تتوفر في التعليم عن بعد ولكنها تتوفر في التعليم الحضوري فقط، فالتفاعل المباشر والتواصل اللساني والجسدي هو جزء من بناء القدرات والمهارات لدى المتعلمين”. وأضاف شارحا:” وإذا كان المغرب قد اعتمد التدريس بالكفايات منذ سنوات وقطع مع كل أشكال التدريس التقليدية التي ترتكز على التلقين المباشر، وجعل من المتعلّم مركز العملية التعلّمية، فإنّ التعليم عن بعد يعيد إنتاج أشكال التدريس التقليدية، حيث يصبح المتعلم مجرد متلق سلبي، خصوصا في سنوات التعليم الأولى، حيث المتعلم لم يكتسب المهارات الكافية للفهم والتحليل والنقد”.
وتابع المتحدث ذاته:” وإذا كان التعليم هو حق لجميع المواطنين والمواطنات وفق مبدأ تكافؤ الفرص، فإنّ التعليم عن بعد ينسف هذا الحق وهذا المبدأ ويخلق تفاوتا كبيرا بين فئات المجتمع، بين التعليم العمومي والتعليم الخصوصي، فالتجهيزات والمعدات المتوفرة في المؤسسات الخصوصية لا تتوفر في كل المؤسسات العمومية، وبين المجال الحضري والمجال القروي، حيث تفتقد بعض المجالات القروية لتغطية شبكة الإنترنيت بالإضافة إلى ضعف الصبيب على المستوى الوطني، ممّا يعيق إنتاج ورفع الكبسولات التعليمية والتواصل بين المدرّسين والمتعلّمين، وأخيرا وبشكل عام بين الأغنياء والميسورين والفقراء، فليس كل الأسر استطاعت أو تستطيع توفير الأجهزة الإلكترونية والإنترنيت لأبنائها، بل هناك أسر لا تتوفر على جهاز التلفاز لمتابعة الدروس عبر القنوات التلفزية المعدّة لهذا الغرض”.
وزاد قائلا:” إنّه تعليم يكرّس ويعيد إنتاج الفوارق الطبقية في المجتمع، لكنّه كان حلاّ اضطراريا وينبغي تقييم أثره وفق هذا السياق، لكي لا نبخس جهود كل الفاعلين التربويين الذين انخرطوا في إنتاج الموارد الرقمية من أجل إنجاح الموسم الدراسي”.
ويزكي هذا الطرح مدير المؤسسة بقوله:” بالفعل تراجع مستوى بعض التلاميذ، فالتقويم الشخصي الشفوي أبان عن أن بعض الحالات انخرطت بسهولة في حين أن أخرى تراجع مس تواها الدراسي، مما يستلزم جهدا كبيرا للعمل على موازنة المستوى بين مختلف تلاميذ المؤسسة”.
واستخلاصا، لا يمكن المقارنة بين التعليم الحضوري والتعليم عن بعد، لأن لكل منهما دوره وأساليبه إلا أن التعليم عن بعد يبقى فقط مكملا وليس حلا بديلا. ويدعم هذا المنظور ما ذهب إليه الأستاذ في رده قائلا:” ومن مؤشرات “عدم نجاعة” هذا الخيار من التعليم هو اعتماد الدروس الحضورية فقط في الامتحانات الاشهادية، فرغم المجهودات الكبيرة التي بذلها رجال التعليم طوال الفترة المتراوحة بين توقيف الدراسة الحضورية ونهاية السنة الدراسية، إلاّ أنها لم تكن كافية في ظل هذه التفاوتات المذكورة آنفا، وفي ظل منظومة اجتماعية وتربوية تقليدية، بالإضافة إلى تفضيل الأسر للتعليم الحضوري عندما خيرتهم الوزارة بينه وبين التعليم عن بعد”.
تعليقات الزوار ( 0 )