استيقظت هذا الصباح متأخرا بعد ان جفاني النوم البارحة حزنا على مآل ومصير الطفل ريان ، ووجدت في عيني بقايا دموع تحجرت في مآقيها ، فشربت قهوة سوداء ولم استطع أخذ وجبة الفطور ، وخرجت مسرعا أحاول أن أنفض عني الضجر والملل ،وأنا اقول لنفسي إنه قضاء الله وقدره ، فلعل في موت ريان خير له ولأهله والوطن وللانسانية ، لا ادري ففي بواطن الامور أسرار لا يعلمها إلا الله ، فمن كان من الناس يعرف قرية اسمها إغران من إقليم شفشاون ، وقد سلطت عليها الآن الأضواء وغدا يعرفها العالم بعد أن أصبحت قبلة الحجاج من المتعاطفين المغاربة من كل حدب وصوب الذين جاءوا اليها رغم صعوبة الطرق والمسالك ،والحقوا الليل بالنهار رغم قساوة البرد والجوع فكان الطفل محتجزا في جوف البئر ، وكان الجمهور والجموع المحتشدة محتجزة بدورها في جوف الجبل .تئن كما يئن ريان وتتألم كما يتألم ،
خرجت هذا الصباح لا ألوي على شيء وسرت على غير هدى، أهدأ من روعي فوجدت أزقة مدينتي الصغيرة خاوية على عروشها والمقاهي فارغة ، من روادها ، فركبت سيارتي واخذت اتجول في نواحيها وجنابتها ، فوجدت حقول القمح قد أصفرت ، وذبلت وكأنها بدورها تبكي وتشاركنا الحزن الوجودي على نفسها وعلى ريان وكان كل شيء حولي يبدو وكأنه يحتضر ويسلم الروح لباريها، وقد تأخر هطول الامطار ، واصبح الموسم الفلاحي في خبر كان، ومع ذلك كان جمهور المواطنين لا يعطي لذلك أهمية وقد شغلتهم اخبار الطفل الصغير ونسوا مآسيهم وارتفاع الاسعار ، رغم صعوبة احوالهم ، واشتداد الأزمة عليهم ، وقد ضاقت عليهم الدنيا بما رحبت حتى ظنوا بالله الظنونا ،، ورغم ذلك كان جل همهم طيلة خمسة أيام أن ينقذ الله الطفل ، لكنه مات فسالت الدموع واجهشت العيون بالبكاء ،
اليوم يوم احد وهو يوم راحة اسير ببطء ابتعد رويدا رويدا عن المدينة مخلفا ورائي هدوءا غريبا ولا أرى امامي إلا حقولا ذابلة ، تنبئ عن سنة عجفاء تأتي بعد سنوات الوباء اللعين ومتحوراته، نسأل الله السلامة.
ولكن ورغم كل شيء يبقى هناك امل يجب أن تمسك به ، هذا الأمل تمثل في الحب والرحمة والتضامن ،الذي خلفه لنا ريان ، وهذه الهبة الإيمانية التي ملأت القلوب وصدحت بها الحناجر وألغت التفاهة قليلا وجعلت أصحابها على الهامش بعد ان ارجع. ريان المغاربة إلى رشدهم ، فكتبت في حق الطفل المقالات والقيت قصائد الرثاء من طرف الشعراء المعروفين والمغمورين ، وخطب في حقه العلماء والفقهاء ، وكانت خطبة الشيخ النهاري الخطبة العصماء.
لقد خلفت لنا ياريان رغم كل الظروف الصعبة قلبا نابضا. وإحساسا مراهقا نبيلا عاليا ، وخيرا كثيرا ، اشعرتنا بقوة الله وحضوره وقيوميته ، وصمديته ، وان كل اسباب الدنيا المادية لا تنفع شيئا. إذا أراد الله امرا ، وعلمنا صدق الحديث النبوي الذي قاله لابن عباس.
عن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب -رضي الله تعالى عنهما- قال: كنت خلف النبي ﷺ يوما، فقال: يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم: أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف.
الآن سنعود الى أيامنا ، والى أشغالنا ، منتبهين الى الدروس والعبر ، راجين من الله ان يجعل المغاربة اخوة ، متضامنين من أجل خير البلاد. والعباد، راجين رحمة الله ، وان يغيثنا بالأمطار ، فقد جفت السدود والآبار ، داعين الله ان يرحم البهائم والأشجار ، وان يهدينا الى ما فيه الخير ،وسواء السبيل من أجل نجاة الجميع يوم. العرض عليه ومن أجل تقدم الاوطان .
وفي الأخير. أتوجه بالشكر لله العلي القدير. الله… اشكرك ….يارب ….أن سخرت العالم كله من أجل ريان….لقد جعلت حادثة سقوط ريان في البئر في قرية نائية منسية وسط الجبل معجزة كبرى تدل على وجودك …تدل على قيوميتك وصمديتك ……من غيرك يستطيع ان يحيي العظام وهي رميم ……..شكرا يا الله …..شكرا أيها المغاربة الرائعون ملكا وشعبا ….شكرا أيها الإخوة العرب …..شكرا أيها الإخوة الجزائريون …شكرا لكم أيها الإخوة في الإنسانية من كل الاعراق والأديان ممن صليتم من أجل ريان ….شكرا لجميع القنوات التلفزية …شكرا أيها السائق لآلة الحفر البطل …شكرا أيها الحفار الصحراوي الشجاع .صورتك صارت ايقونة محفورة في مخيلتنا …شكرا للسلطات المحلية بشفشاون والقوات المساعدة ورجال الدرك الملكي …..شكرا للمسؤولين ….شكرا للدولة …..شكرا للصحفيين ….شكرا ايها البسطاء .لقد استطعتم في ظرف أيام. تزيحوا جبلا من مكانه وتحولوه الى كومة من التراب بفضل عزيمتكم وإرادتكم القوية ….شكرا للشبان والصغار ممن أرادوا التضحية بانفسهم والتطوع والنزول في أعماق البئر من أجل إنقاذ ريان ، لقد أبنتم عن معدنكم النفيس …. شكرا للجميع لقد كنتم في مستوى الحدث ستقلب الصفحة ، لكننا سنحفظها …وسنكتب احداثها في صخور ذلك الجبل كما كتب أبناؤنا الاولين في الكهوف والمغاوير لتبقى خالدة للتاريخ .تقرأها الأجيال القادمة جيلا بعد جيل.
تعليقات الزوار ( 0 )