في زمن تتسارع فيه وتيرة التكنولوجيا بشكل غير مسبوق، وتتشكل معه أنماط جديدة للتنقل الحضري خارج الإطار التقليدي المعهود به، باتت الحاجة ماسة إلى تشريع يواكب هذا التحول الجذري، لا يقف عند عتبات الواقع، بل يستشرف آفاقه، ويعيد صياغة العلاقة بين الفرد والطريق. ومن هذا المنطلق، صادق مجلس الحكومة بتاريخ الخميس 19 يونيو 2025 على مشروع المرسوم رقم 2.24.393، ليؤسس بذلك لتحول تشريعي جوهري في مجال السلامة الطرقية وتنظيم وسائل التنقل الحديثة. كيف ذلك ؟
يندرج مشروع هذا المرسوم ضمن دينامية إصلاحية متواصلة تهدف إلى ملاءمة المنظومة القانونية المؤطرة لحركة السير مع التحولات التكنولوجية المتسارعة في مجال النقل الحضري وشبه الحضري، وهو ما يستدعي مراجعة دقيقة للأنظمة القانونية السابقة والعمل على تحيينها وتجديدها ، خصوصا تلك التي لم تعد تستوعب المستجدات التي فرضتها وسائط التنقل الحديثة، لاسيما المركبات الكهربائية والذكية. وينبني هذا المشروع، من حيث جوهره، على إرادة تشريعية واضحة في تحديث مضامين المرسوم رقم 2.10.421، المؤطر لمقتضيات مدونة السير (القانون رقم 52.05)، انسجاما مع متطلبات السلامة الطرقية وتبسيط الإجراءات الإدارية من جهة، ومع ضرورة تنظيم فضاء النقل الحضري الجديد الذي أفرزته الثورة الرقمية من جهة أخرى.
إن القراءة المفاهيمية لمصطلحي “مركبة التنقل الشخصي المحرك” (Véhicule de Mobilité Personnelle Motorisée) و”الدراجة بدواس مساعد” (Vélo à Pédalage Assisté)، كما وردا في نص المشروع، تكشف عن وعي قانوني تشريعي باستحداث واقع تنقل بات يفرض نفسه على البنية المرورية فب المغرب دون أن يجد له إطارا قانونيا دقيقا يحدد طبيعته أو يضبط استخدامه. فـــ “مركبة التنقل الشخصي المحرك” تقصد بها تلك الوسائل الحديثة الخفيفة الوزن التي تعمل بالطاقة الكهربائية أو بمحركات صغيرة، والتي غالبا ما تستخدم في التنقل الفردي داخل المدن، مثل السكوتر الكهربائي (E-Trottinette)، واللوح الذكي المتحرك (Hoverboard)، والدراجات الكهربائية ذات الدفع الذاتي (Vélo à Assistance Électrique)، وهي جميعها مركبات لا تتطلب جهدا بشريا مباشرا، بل تشتغل بصورة آلية أو شبه آلية، وتتراوح سرعتها القصوى عادة بين 25 و45 كيلومترا في الساعة. أما “الدراجة بدواس مساعد”، فهي مركبة تجمع بين الدفع العضلي والمحرك الكهربائي، لكن هذا الأخير لا يشتغل إلا في حالة تدوير الدواسات، ما يجعل الاعتماد على الجهد البشري أساسيا، ويمنحها طابعا مزدوجا يجمع بين الوسائل التقليدية والتكنولوجيا المعاصرة .
ويكتسي إدراج هذين المفهومين في مدونة السير طابعا تأسيسيا، ليس فقط لأنه يسد فراغا تشريعيا حقيقيا، بل لأنه يساهم في بناء تصور قانوني شامل لمسؤولية مستعملي هذه المركبات، سواء من حيث تسجيلها وترخيصها، أو من حيث تحديد المسؤولية في حال وقوع حوادث مرورية، أو حتى من حيث فرض احترام المواصفات التقنية والسلامة التي يجب أن تتوفر فيها، من أنظمة كبح فعالة، وأجهزة إنارة، ومحددات سرعة قصوى، وكلها شروط تقنية تخول للسلطة الحكومية المكلفة بالنقل صلاحية ضبطها وتحيينها، مما يضمن مرونة تشريعية لا تستدعي التعديل القانوني المتكرر، بل تخضع لتكييف إداري مرن ومتدرج.
ولعل من أبرز المقتضيات ذات الدلالة التشريعية الدقيقة في هذا المشروع، إلزامية تجهيز المركبات بأنظمة السياقة الذكية، مثل أدوات تجنب الاصطدام، وأنظمة المراقبة الذكية للسرعة، وهي خطوة تشريعية تحمل بعدا استباقيا، لأنها تنقل عبء السلامة من مجرد سلوك السائق إلى منظومة تكنولوجية مرافقة له، تلزم المصنعين والمستوردين باحترام معايير جودة محددة، وترفع من مستوى أمان المركبة ذاتها، لا فقط سلوك مستعملها. وهو ما يؤسس لمسؤولية قانونية جديدة ترتبط بالمصنع والموزع، لا بالمستعمل فقط .
أما من جهة المساطر، فقد جاء المشروع بمبادرة نوعية لتبسيط إجراءات تسجيل وترخيص المركبات الجديدة، بما يضمن الانسيابية والسرعة، مع الإبقاء على ضوابط السلامة ومقتضيات التتبع القانوني، وهي خطوة ضرورية لتقليص البيروقراطية في وجه مستعملي وسائل النقل الحديثة، وتحقيق نجاعة مؤسساتية في التعامل مع المستجدات .
وفي البعد الدستوري، يستند مشروع المرسوم إلى مقتضيات الفصل 92 من الدستور المغربي، الذي يخول للحكومة اتخاذ المراسيم التنظيمية في إطار تنفيذ القوانين، وهو ما يضفي على المشروع مشروعية قانونية صلبة، ويعززه الطابع التكميلي الذي يحتفظ به تجاه القانون رقم 52.05، حيث لا يتجاوزه ولا يلغيه، بل يطعمه ببعد تقني وتنفيذي لم يكن متوفرا من قبل، ويعكس رغبة السلطة التنفيذية في استثمار صلاحياتها التشريعية الفرعية لمواجهة واقع جديد.
ورغم ما يحمله هذا المشروع من إيجابيات تشريعية، فإنه لا يخلو من تحديات محتملة، أولها يرتبط بالفراغات التنظيمية التي قد تنشأ نتيجة تعميم مفاهيم واسعة كــ “المركبة الذكية” دون تدقيق كاف في مكوناتها وأنواعها، وثانيها تحدي التنسيق المؤسساتي، خاصة بين وزارة النقل والوكالة الوطنية للسلامة الطرقية، من أجل ضمان تطبيق موحد وفعال لا تهدر فيه الجهود نتيجة تداخل الصلاحيات أو غياب الرؤية المشتركة.
إن هذا التحول التشريعي، في مجمله، لا يعد فقط تحديثا لنص قانوني تقني، بل هو إشارة قوية إلى انخراط الدولة المغربية في مسار التحديث المؤسساتي الشامل، من خلال بناء منظومة قانونية قادرة على التفاعل مع التكنولوجيا، لا مقاومتها، وعلى استباق التحولات، لا الاكتفاء برد الفعل. كما يشكل المشروع نقطة ارتكاز نحو تنظيم عقلاني لوسائل التنقل الجديدة التي باتت تقتحم المجال الحضري بقوة، دون أن تكون مؤطرة بإطار قانوني واضح المعالم. وبالتالي؛ فإن نجاحه لا يتوقف على حسن صياغته، بل على جودة تنفيذه، ومواكبة أجهزته الرقابية، وحسن تواصل الإدارة مع المواطن لفهم الالتزامات الجديدة المترتبة عن استعمال هذه الوسائل .
فإذا كان القانون يضع الإطار، فإن الواقع يفرض التفاصيل، وما بينهما تقع مسؤولية الدولة، في إيجاد توازن دائم بين حرية التنقل، ومتطلبات الأمن والسلامة العامة.
تعليقات الزوار ( 0 )