قليلا من المسلمين من يعرفون أن الإمام البخاري صاحب كتاب الجامع الصحيح والذي اعتبر أصح كتاب بعد القرآن الكريم ، أنه مات كمدا وحزنا منفيا طريدا في البلدان بسبب راي حول مسألة خلق القرآن وبسبب قمع السلطة السياسية عبر التاريخ الإسلامي الطويل لكل صاحب رأي أو فكر مخالف ، وقد خلفت لنا المدونات التاريخية عددا من المفكرين والفلاسفة تم نفيهم من بلدانهم عانوا الأمرين وتم الزج بهم في السجون كالشيخ ابن تيمية الذي حبس في سجن القلعة بسبب شد الرحال الى المسجد النبوي او كالفيلسوف الطبيب ابن سينا، الذي اعتقل فى قلعة «فردقان» كما تنطق بالفارسية، حيث قضى الشيخ الرئيس ابن سينا أياما طوالا فى الحبس عقب اعتقاله فى همذان «بأمر أميرى لمدة غير معلومة»
وكذلك كان حال الفيلسوف الاندلسي ابن رشد ومحنته مع الفقهاء ومع السلطان أبو يعقوب المنصور الموحدي الذي خضع لضغط العامة، فأحرقت كتبه ونفي للمغرب ، وما وقع للإمام أحمد بن حنبل ومحنته المشهورة مع المأمون حول فتنة خلق القرآن.
وتأتي محنة الإمام البخاري في آخر حياته لتؤكد قاعدة الحجر. على العقل المسلم بشكل أدى. الى قمع الاجتهاد وتكريس التقليد ،وقد وقعت هذه الاحداث للبخاري عند عودته إلى نيسابور واستقي وقائع هذه المحنة من عدد من المراجع والمصادر منها كتاب إرشاد الساري للإمام القسطلاني صاحب كتاب المواهب اللدنية ، وكتاب هداية الساري بسيرة البخاري للحافظ العسقلاني ،فقد اورد الحاكم أن البخاري قدم نيسابور سنة 250 هجرية قام بها خمس سنوات يحدث على الدوام ، وقال ابن عدي ،ان محمد بن إسماعيل لما ورد نيسابور واجتمع عليه الناس حسده بعض من كان في ذلك الوقت من المشايخ بسبب إقبال الناس إليه واجتماعهم عليه فأشيع أن البخاري يقول اللفظ بالقرآن مخلوق فامتحنوه ، فلما حضر الناس المجلس قام احدهم فقال يا أبا عبد الله ما تقول باللفظ في القرآن مخلوق هو أم غير مخلوق ؟ فأعرض عنه البخاري ولم يجبه ثلاثا ، فالتفت إليه في الثالثة فقال له القرآن كلام الله غير مخلوق وأفعال العباد مخلوقة ، وقد قال شيخ نيسابور آنذاك الذهلي، وفي قلبه حسد للبخاري من اجتماع الناس،حوله القرآن كلام الله غير مخلوق ومن زعم لفظي بالقرآن مخلوق فهو مبتدع لا يجالس ولا يكلم ، ومن ذهب بعد هذا الى محمد بن اسماعيل البخاري فاتهموه فإنه لا يحضر مجلسه إلا من كان على مذهبه كما ورد في تاريخ بغداد للخطيب البغدادي وتاريخ دمشق لابن عساكر وسير اعلام النبلاء الذهبي ، ولما قام مسلم بن الحجاج النيسابوري وأحمد بن سلمة عن مجلس محمد بن يحيى الذهلي بسبب البخاري قال الذهلي لا يساكنني هذا الرجل في البلد وقد حمل حب الذهلي للرئاسة على أن حرض على البخاري وهجره الى ان حوصر وفرض عليه الخروج ومغادرة نيسابور من ولاية خرسان.
فخرج البخاري منكسر النفس والخاطر، الى بخاري وعند وصوله بعث إليه الأمير خالد بن أحمد والي بخاري وطلب منه أن يحمل اليه كتاب الجامع وكتاب التاريخ الكبير فقال البخاري لرسول الأمير انا لا أذل العلم ولا أحمله إلى أبواب السلاطين ،فإن كانت له حاجة إلى شيء منه فليحضرني في مسجدي أو في داري فغضب الأمير وامره بمغادرة بخارى، فرجع الى سمرقند فأقام بقرية من قراها يقال لها خرتنك ، وقد قال ابن عدي سمعت عبد القدوس السمرقندي يقول خرج البخاري الى خرتنك، وهي قرية من قرى سمرقند وكان له فيها اقرباء فيها فنزل عندهم فسمعته في ليلة من الليالي وقد فرغ من صلاة الليل يدعو ويقول في دعائه اللهم إنه ضاقت علي الأرض بما رحبت فاقبضني إليك قال السمرقندي فما تم الشهر حتى قبضه الله وقبره بخرتنك وقد مرض قبل ذلك واشتد به المرض واضطجع فقضى وسال منع عرق لا يوصف وكان اوصانا ان نكفنه في ثلاثة اثواب ليس فيها قميص ولا عمامة وتوفي يوم السبت مستهل رجب سنة 255 هجرية رحمه الله.
حقيقة إنها قصة صادمة ومأساوية لعالم أطبقت شهرته الأفاق، ولا زال المسلمون في أدنى الارض واقصاها يتعبدون بصحيحه وما اورد به من أحاديث منقولة بالاسانيد عن الرواة الثقات الى رسول الله ، ولم يشفع له كل ذلك في حياة كريمة وأن يجد مأوى في آخر حياته بسبب رأي حول قضية خلق القرآن وما كان قوله الا ان لفظه بالقرآن من حروف واصوات مخلوق ولم يشفع له مكانته بين المحدثين من ان يجد له أنصارا ومؤيدين ، إنها مفارقة مؤلمة أن يتنكر له الجميع في آخر. حياته، ويقدسه المسلمون بعد وفاته ومع الاسف الشديد تكررت مثل هذه المآسي في تاريخ التفكير الاسلامي كما قلت آنفا مع علماء ومفكرين وفلاسفة كبار ، مما عطل وآخر تحرر الفكر وقمع الابداع والاجتهاد وإيقاف عجلة التطور . حفاظا على السلطة السياسية القائمة .الى ان استفاق المسلمون من سباتهم الطويل وبونابرت يقتحم القاهرة بمدافعه وباروده ومطابعه وحضارته ، والمماليك يواجهونه بالسيوف لا زالوا يقبعون، في العصور. الوسطى.
تعليقات الزوار ( 0 )