حلت يوم 6 فبراير ذكر مرور 61 سنة على رحيل أبرز زعيم من زعماء الحركات التحررية في بلاد المغرب الذي ارتبط اسمه بجهاد المستعمر. محمد عبد الكريم الخطابي بطل المقاومة وأمير المجاهدين الريفيين، أفنى حياته في حمل السلاح ومواجهة جيشين من أحدث الجيوش عتادا وتنظيما في العشرينات القرن الماضي. لكن حكام المغرب ما بعد الاستقلال لم يحملوا له أمجادا ولا عرفانا!!
ثار المجاهد الخطابي على الظلم منذ ان كان شابا يفعا. كانت روحه تتوق إلى الحرية والدفاع عن حق الإنسان في الوجود، وكان نبراسا يهتدي به الريفيون في دياجير الظلم والطغيان. وفي ظل الأحداث المؤلمة التي سادت تلك الفترة من استغلال واستنزاف للثروات وخيرات منطقة الريف لم يقف مكتوف الأيدي فانخرط في مشروع المقاومة الذي بدأه أبوه حيث أصبح همه الوحيد تفعيل وتطوير هذا المشروع وتحقيقه في الواقع للتصدي للهجمة الإمبريالية الاستعمارية.
كان الخطابي يدرك منذ البداية أن مشروع المقاومة لا يتحقق ويؤتي ثماره إلا بالوحدة والإعداد. عمل على توحيد القبائل تحت راية الجهاد والمقاومة وأعد رجالا مقاتلين أشداء زادهم الإيمان بالقضية، يدافعون عنها بالغالي والنفيس.
وضع خطة محكمة ترتكز خاصة على حرب العصابات ومعرفة سلوك العدو، قدراته، جوانب ضعفه وقوته، عدده وعدته… كل هذه الجوانب تلعب دورا جوهريا في إلحاق الهزيمة بالعدو!
في سنة 1920م عين حاكم مدريد الجنرال (سلفستر)على رأس القيادة العليا للجيش لبدء الزحف نحو مدينة مليليه واحتلال بعض المناطق بما فيها منطقة أنوال دون مقاومة تذكر. ظن (سلفستر) أن القبائل قد خضعت له واستتب له الأمر ونسي أن المجاهد الخطابي أعد له العدة عندما استدرجه إلى فخ المناطق الجبلية الوعرة، لا يعرف مسالكها وتضاريسها!.. كان على (سلفستر) أن يواجه في هذه المناطق أناس مقاومين من صنف آخر، من طينة أخرى، هم حفنة من المجاهدين المؤمنين بقضيتهم ايمان لا يتزحزح، يعرفون المنطقة معرفة أبنائهم، يخرجون له من حيث لا يحتسب، يقنصون جيشه ببنادقهم أو يفجرون حقل ألغام في قواته ثم يختبئون في غار أو نفق، إنها استراتيجية “الكر والفر” مهندسها المجاهد الخطابي، استنزفت قوى (سلفستر) وكبدته خسائر فادحة، لم يرضى بالهزيمة فمات منتحرا!
إن الخطة التي وضعها المجاهد العبقري الخطابي أثبتت جدارتها وفاعليتها عالميا في مواجهة الجيوش النظامية المعتدية الطاغية، جربتها المقاومة الفيتنامية والحركات التحررية في أمريكا اللاتينية فآتت أكلها. أخذ المناضل الفيتنامي (هو تشي منه Ho Chi Minh) الفكرة وطورها إلى شبكة أنفاق تحت الأرض، شكلت لأمريكا رعبا وكابوسا لن تنساه أبدا. صمد المقامون الفيتناميون الأبطال لمدة 20 سنة في مواجهة الآلة الحربية الأمريكية الإجرامية، خلفت دمارا هائلا في البنية التحتية وملايين من القتلى والجرحى في صفوف الشعب الفيتنامي الأعزل. نفس السيناريو يتكرر الآن في قطاع غزة الجريحة في مواجهة الصهاينة المجرمين المدعمين من الاستكبار العالمي . أحدثت فصائل المقاومة الفلسطينية شبكة عنكبوتية ضخمة من الأنفاق لا يعرف جيش الصهاينة سر بنيتها. يخرجون لهم المجاهدون من فتحات مختلفة، يفجرون فيهم العبوات الناسفة ويدمرون الآليات العسكرية ثم يعودون سالمين إلى الأنفاق. إنها حرب العصابات والأنفاق التي تقض مضجع العدو ويعجز عن تفكيكيها؟!
انتصر مجاهدو الريف على المستعمر بفضل الإعداد الجيد وإحكام الخطة والإيمان القوي بالقضية. كل هذا تم بحكمة وتوجيه القائد محمد عبد الكريم الخطابي، “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وأخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم، وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون”. هذا هو القانون.. قانون تطهير الأرض من دنس المستكبر كي يعيش الإنسان حرا كريما في بلده!
أحسب أن المجاهد الخطابي ورفاق دربه خاضوا المعركة بهذه الروح.. روح الإعداد واللحمة ونبذ نعرات الفرقة وحسن التدبير والتخطيط ومعرفة نقاط الضعف في خطط العدو.. فكان النصر حليفا لهم “ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله”. لكن فرحة النصر لم تدم طويلا حتى ظهر جيش من الدجالين والخونة والمتآمرين مع المستعمر على الثورة وإجهاضا في المهد.
بعد النصر التاريخي الذي حققته المقاومة الريفية بقيادة محمد عبد الكريم الخطابي في معركة أنوال الخالدة عام 1921، فكر هذا الأخير في إنشاء قيادة شرعية ذات نظام دستوري لقيادة حركة المقاومة وإعطائها فاعلية أكثر، فدعا القبائل إلى عقد اجتماع تمخض عنه إحداث مجلس عام يكون المرجع الأعلى والذي أطلق عليه “الجمعية الوطنية”، وعهد إليها تمثيل إرادة الشعب وتنظيم الكفاح وإدارة المنطقة. وكان أول قرار اتخذته “الجمعية الوطنية” هو إعلان استقلال الوطن وتأسيس حكومة جمهورية دستورية يترأسها الأمير محمد ابن عبد الكريم الخطابي باعتباره قائدا لحرب التحرير. واتفق أيضا على جعل 18 شتنبر 1921 يوما للاستقلال. وبعد عدة اجتماعات وضعت الجمعية الوطنية دستورا للبلاد أساسه مبدأ سلطة الشعب. كما اختارت الجمعية علما لدولة الجمهورية الريفية أحمر اللون ووسطه معين أبيض وداخل المعين هلال أخضر ونجمة خماسية من نفس اللون، ونص الدستور الريفي على جعل أجدير عاصمة الجمهورية الريفية ومعسكرا لجيشها وغيرها من المصالح العمومية… إلخ. (مقتبس من مقال لعمر مزواضى، نشر في صحيفة معلمة الإلكترونية 1 يونيو 2022).
كل الإنجازات التي حققها الخطابي أرعبت فرنسا ورأت فيه تهديدا مباشرا لمشروعها الاستعماري في بلاد شمال افريقيا فهاجمته بكل ما أوتيت من قوة للقضاء عليه والتخلص منه. لكن طلائع المقاومة كانوا لها بالمرصاد وتصدوا لها ببسالة وشجاعة وانتصروا عليها متكبدة الخسائر في الأرواح والعتاد. عاودت فرنسا الهجوم على المنطقة متحالفة هذه المرة مع الإسبان وجيش من المرتزقة والخونة، استخدم فيه الطائرات والأسلحة الكيماوية المحرمة دوليا.
كانت هذه الهجمة الشرسة على منطقة الريف المجاهدة وصمة عار في جبين الغرب المتشدق بقيم وحقوق الإنسان، تنضاف إلى سجل الجرائم التي اقترفها في حق الإنسان في أرجاء المعمورة.
لقد وصلت فرنسا إلى مبتغاها ونفي المجاهد الخطابي مع أسرته بعيدا عن بلده الذي أحبه وجاهد من أجل تخليصه من قبضة هذا المستعمر الطاغي. لم يستسلم للواقع الذي فرض عليه، وظل يندد من مكان منفاه بجرائم المستعمر ويفضح المتآمرين معه من سماسرة ومرتزقة كما يشير هذا الحوار الصحفي الذي أجري معه عام 1962:”لقد سالت كثير من الدماء فيما مضى ولا تزال تسيل والنتيجة حتى الآن صفر، وذلك بسبب هؤلاء الانهزاميين أو السماسرة الذين يقفون دائما في طريق نجاح الكفاح”.
يقول مالك بن نبي الجزائري في كتابه الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، ص. 29 :”إن الإستعمار يحسب حسابا لكل أعماله وأقواله، حتى لا ينفك الإتصال بين مصالح مركب الأفراد، وبين انفعالات الشعب، أي بين شهوات البطون المؤثرة وبين الأوضاع العاطفية الواقعة تحت تأثيرها. والمحافظة على هذا الإتصال هو الشرط الأساسي في خطة الإستعمار الإستراتجية التي تقتضي في حالة التطبيق:
أولا: أن يضرب الإستعمار كل قوة مناهضة له تحت أي راية تجمعت.
ثانيا: أن يحول في كل الظروف بينها وبين أن تتجمع تحت راية أكثر فعالية”.
هذان الشرطان اعتمدهما الإستعمار في القضاء على الثائرين المخلصين وهو لا يتوانى باتباع كل وسيلة ميكافيلية لتحقيق هذه الأهداف. فالسماسرة أو الإنهزاميين – بتعبير الخطابي- هم من كانوا سندا للمستعمر في تخريب كل ما أنجزته المقاومة لتحرير البلاد من هيمنته على الصعيدين العسكري والفكري.
والمستعمر كي يبقي على مصالحة في البلاد بعد الإستقلال، خلق نخبة تحمل تعاليمه وأفكاره، تقدم نفسها تارة باسم الفكر التقدمي- الإشتراكي وتارة أخرى باسم التقدم والحضارة. فسياسته باقية طالما بقيت دوافعها في ضمير يعي وفي عقل يدرك وفي قلب يشعر، أو بعبارة أخرى كانت دوافعها متصلة بالأفكار.
حذر الخطابي النخبة السياسية التي كان المستعمر يمنيها بحكم البلاد بعد الإستقلال من أن توقع على وثيقة رخيصة تمنح المستعمرامتيازات لم يكن يحلم بها!.. كان بإمكان الخطابي أن ينضم إلى الفريق الذي وقع على هذه الوثيقة المشؤومة ويتبؤ منصبا رفيعا في حكومة ما بعد الإستقلال، لكن مبدأه يأبى عليه الإستهتار بدماء الشهداء وبقي وفيا لعهدهم حتى لقي ربه “من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا”
رحمك الله أيها الرجل المجاهد الأسطوري!.. جهادك ونضالك سيبقى حيا خالدا في ذهن كل إنسان حر في هذا العالم، يعشق الحرية، يقف في وجه المستكبرين والفسدة ويكافح من أجل كرامة الإنسان المقهور… إن طريق الكفاح الذي بدأه المجاهد الخطابي وأمثاله المخلصين لا زال طويلا فعلينا ألا نتخلى عن السلاح، سلاح الكلمة الحرة التي تجعل الإنسان يعي كرامته وحريته فينهض من كبوته ويقاوم المستبدين والفسدة. هذه هي الرسالة الخالدة التي يجب أن نعيها ونبلغها إلى الأجيال حتى يأذن لنا الرب بالرحيل!
تعليقات الزوار ( 0 )