شارك المقال
  • تم النسخ

محمد أمزيان: هل هدد عبد الكريم الخطابي المنظومة الاستعمارية؟

سؤال سيظل مثار جدل واهتمام، دون الزعم بأن أحدا يمكن له صياغة جواب حاسم عنه. ولعل هذا ما يجعل من التاريخ علما مفتوحا يغري الباحثين، حتى وإن كانوا يعلمون أنهم يخوضون في حقل ألغام. في كتابه الذي نقله الدكتور محمد الداودي مؤخرا إلى العربية، يقدم الصحفي الأمريكي المشهور فنسنت شيين “أمريكي بين الريفيين” عناصر الجواب، مستعينا بمشاهداته الميدانية وبمقابلاته مع محمد عبد الكريم الخطابي وبعض أركان قيادته. يلخص شيين معضلة المعادلة الريفية إثر قرار الهجوم على القوات الفرنسية في أبريل 1924، واصفا موقف فرنسا من عبد الكريم ومشروعه: “يستحيل على فرنسا أن تسمح لعبد الكريم بأن يتحداها وأن يوطد موقعه في دولة ذات سيادة فوق جزء كبير من الإمبراطورية الشريفة التي تعهدت فرنسا بحمايتها” (ص. 62). اعتبرت فرنسا ذلك “تحديا” بينما كان الريفيون يرونه واجبا، وخاصة حينما وُضع الخطابي أمام معضلة أخرى حينما زاره وفد كبير من بني زروال يطلبون منه تنظيمهم أو مساعدتهم على مواجهة القوات الفرنسية. جوانب من هذه المعضلة عايشها صحفي أمريكي آخر، هو سكوت مورر الذي كان حاضرا في ذلك اليوم المشهود. وكأن الخطابي وُضع أمام أمرين أحلاهما مر. هذه المعادلة الدرامية بلغة الملاحم القديمة “جعلت السلام مستحيلا”، يضيف شين في مقدمة كتابه (ص. 61).

“أمريكي بين الريفيين” والذي أضاف إليه المترجم عنوانا جانبيا توضيحيا: “رحلة مراسل “شيكاغو تريبيون” في شمال المغرب (1925)”، هو كتاب يرقى إلى مستوى “الشهادة التوثيقية” حتى ولو أن الكاتب لم يحاول تقديمه بهذا الشكل. فكاتبه، فنسنت شيين، كان يقوم بعمله كمراسل ميداني لصحيفة كان قراؤها أمريكيون، إلا أنه تخطى أسلوب المشاهدة والنقل الجاف إلى محاولة الفهم والتفسير. فالمقدمة التي وضعها لرسم صورة التواجد الاستعماري في المغرب، طبعها الحس التفكيكي النقدي. كان بالإمكان أن يكتفي ببعض المحطات التاريخية ليضع القارئ الأمريكي في الصورة ويمضي إلى نقل المشاهد “الغرائبية” التي كانت الصحف الأجنبية تتناقلها عن الريفيين، إلا أنه حلل وناقش، وعقد مقارنات بين الفرنسيين والإسبان ليخلص إلى نتيجة قد نقول اليوم إنها معروفة، لكن آنذاك كان فيها من الذكاء ما يكفي لنقول إن شيين لم يكن مجرد صحفي مغامر، بل كان يملك حاسة مؤرخ وعين أنثروبولوجي، فضلا عن دمه الخفيف الذي طبع به أسلوبه الأدبي الرائع على مدى صفحات الكتاب كله. “لم يكن هناك شيء يمكن تسميته بإدارة مدنية إسبانية، أما الإدارة العسكرية فكانت مهزلة” (ص.56). هذا ما خلص إليه عقله النقدي وهو يعقد مقارنة بين الإسبان والفرنسيين الذين حققوا نجاحات كبيرة في طريقة إدارتهم لمنطقة حمياتهم. هذا يدفعنا إلى طرح سؤال “غير” تاريخي يعتمد على الافتراض، والافتراض ليس من صميم التاريخ كما نعلم: هل فشلُ الإسبان في طريقة إدارتهم لمحميتهم هو الذي فسح المجال لمحمد عبد الكريم الخطابي ليطرح مشروعا بديلا عن الحماية؟ وهل نجاح الخطابي في طرح ذلك البديل هو الذي رأي فيه الفرنسيون أيضا تحديا لهم وبالتالي تهديدا لمشروعهم؟

ثم يدخل شيين إلى الريف من بوابته الشرقية. يروي ما تعرض له في الطريق من أهوال لا يتحملها إلا مغامر لا تثنيه المخاطر. كان مشهد بحثه عن “القايد حدو” مشهدا سينمائيا متكاملا. فهو لا يكتفي بالوقائع، بل يغوص في التفاصيل مثل فنان تشكيلي، مستخدما لغة أدبية راقية، أفلح المترجم في نقل روحها وكأنك تقرأ نصا أصليا. “خرج رجل أو بالأحرى شبح مسن من إحدى الأبواب المحيطة بالفناء الصغير المتسخ. كان يدخن في عود السبسي. عيناه الدامعتان هما عينا كهل لا يأبه بما يجري من حوله. قال لي بنبرة فاترة:

  • “لقد غادر القائد حدو في سفر”.
  • –       “متى سيعود؟”

نفخ العجوز في السبسي ثم أفرغ ما به على حائط متداع بُني اللون. أجاب قائلا:

  • “لا أعلم، سيعود عاجلا أو آجلا، إن شاء الله” (صص. 65-66).

لم يُكتب له أن يلتقي بالقايد حدو الذي عول عليه كثيرا للعبور إلى حيث يوجد الخطابي. لكنه قُدر عليه أن يرافقه ابنه محمد الذي لا “يبخل” شيين في رسم صورة مثيرة عن هذه الشخصية التي لا تسكن إلا بين صفحات الروايات. “بدا لي محمد شخصا متكتما ومتجهما، وكأنه شخصية من القرون الوسطى رغم معطف الصوف البني وأحذيته الرياضية التي يرتديها بدون جوارب. بدا لي فعلا أنه ذلك الابن العارف بشؤون والده، خاصة إذا كان في هذه الشؤون من الإثارة ما هو خفي وغامض” (ص.69). وقبل أن يسرح عقل القارئ في تفاصيل هذه الشخصية التي انبعثت من القرون الوسطـي، يهزنا شيين بصورة مناقضة وصادمة عنه. “أيا يكون الحال، فسيثبت لي لاحقا بأنه شخص لا يضاهيه أحد في انعدام الضمير”.

ينقلنا شيين إلى صورة سوريالية أخرى حينما وقع في أسر قائد مطالسة. وجد نفسه عاجزا عن شرح كونه مواطنا أمريكيا.

  • “هل أنت فرنسي؟”
  • –       “لا”
  • –       “هل أنت إسباني؟”
  • –       “لا. أنا أمريكي”.
  • –       “مريكان، مريكان. وما ذاك”؟

هنا وجدت صعوبة فائقة في الشرح. لم يكن القائد حميد بن دادا مستعدا لتقبل إمكانية وجود كيان مثل هذا. حاول محمد بن حدو أن يبرهن على وجود أمريكا وذلك بوصفها أمة أخرى من نفس الفصيلة أو النوع مثل إنجلترا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا. يعلم القائد بوجود كل هذه الدول وشعوبها، لكنه كان يشك بطبيعة الحال في أن زعمي أني أمريكي هو مجرد محاولة وقحة لخداعه” (ص. 95).

تعمدت نقل هذه المشاهد كنموذج لما صادفه شيين من مواقف صعبة، لكنه تعاطى معها بنوع من الطرافة وكأنه يخفف عن معاناته وخوفه من المجهول. فها هو يتحدث عن معركة مصيرية خاضها ذات وجبة عشاء: “من الصعب أن تمد يدك نحو الطبق وتمزق قطعة من اللحم بينما يتطلع عشرة آخرون لفعل الشيء نفسه. لكنني رغم ذلك نجحت في تحقيق هذه المهمة البطولية واستطعت أن أحصل على قطعة شهية. لكن بمجرد إدخالها في فمي، اقتنعت بضرورة أن أتحول إلى نباتي” (ص. 107).

ليس “أمريكي بين الريفيين” كتابا للمفارقات الطريفة والتسلية أو الترفيه الأدبي الغرائبي، بل فيه زاد تاريخي وتوثيقي دسم. فلقد كان من حسن حظ شيين أن يحاور الشريف الريسوني إبان استسلامه وقبل نقله إلى الريف (صص. 279-269)، وحواراته مع الأمير امحمد، قائد الجبهة الغربية ورجل التخطيط العسكري، وبطبيعة الحال حواراته ولقاءاته مع الخطابي نفسه والصورة التي رسمها عنه لدرجة تحس وكأن شيين منبهر بشخصيته الفذة، فيتساءل. “أي نوع من الرجال هو؟ ليجيب بأسلوب هادئ يقترب من رسم ملامح عبقرية الخطابي القيادية: إنه ” ابن فطن للقرن العشرين، رجل عازم ومقتدر وذو تجربة وحكمة. لا نتحدث هنا عن العبقرية، بل عن شيء أفضل من ذلك: إنها القدرة على إدراك قيمة الطاقات الجماعية ثم العمل على توجيهها” (ص. 202).

*   فنسنت شيين، أمريكي بين الريفيين: رحلة مراسل “شيكاغو تريبيون” في شمال المغرب 1925)، ترجمة وتقديم وتعليق محمد الداودي، منشورات تيفراز الريف وباب الحكمة، 2022.

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي