نظم مركز مغارب للدراسات في الاجتماع الإنساني المجلس الخامس من “مجالس مغارب” الأربعاء 22 يوليوز حول موضوع ” ثقافة ما بعد الأخلاق “، أطره الدكتور الجزائري عبد الرزاق بلعقروز ، وهو الأستاذ المتخصص في فلسفة القيم بجامعة سطيف الجزائر، وخبير دولي محكم في مجلات عربية ودولية مثل مجلة تبين في قطر ونماء في بيروت. من مؤلفاته: تحولات الفكر المعاصر، والمعرفة والارتياب، وأزمة الحداثة ورهانات الخطاب الإسلامي، وروح القيم وحرية المفاهيم.
استهل الدكتور مداخلته بالتطرق إلى مشروعية موضوع ما بعد الأخلاق وعلاقة العالم الإسلامي والعربي به، وإذا ما كان مرتبطا فقط بالعالم الأوروبي الغربي وفلسفته. وتأتي المشروعية حسب المحاضر من منطلق كون الإنسان المعاصر اليوم أصبح فكرة ومثالا خلقيا ومفهوما رحَّالا. فالإنسان المعاصر لم يعد يسكن فقط في الغرب وفي الكتب الفلسفية الغربية، أو ما زال إنسانا جغرافيا، بل هو اليوم نموذج ذهني تتشربه الثقافات الأخرى. إنه مفهوم فلسفي، كون الفلسفة تعالج الأزمات الثقافية التي تنخر الإنسان المعاصر.
وكرّس الباحث الجزائري د. بلعقروز القسم الثاني من محاضرته لمفهوم ما بعد الأخلاق فيشير إلى أن هناك عائلة مترابطة فيما بينها مع هذا المفهوم مثل العصر الفرداني الجديد أو الفردانية الثانية أو العصر الفرداني الجديد، والعتبة الثانية من العلمنة الأخلاقية، أو الديمقراطية الأخلاقية لأنها مبنية على الحرية بوصفها قيمة مطلقة تحدد باقي القيم الأخرى. وتعني ثقافة ما بعد الأخلاق الواجب الأخلاقي، والفعل الخلقي الذي وضع له كانط الأسس الفلسفية، والواجب أمام الذات وليس أمام المجتمع، فهو الواجب الذي يبحث عن السعادة الفردية، والاقبال على المتعة بدل الاقبال على الممنوعات، فتتحول الواجبات تجاه شيء ما إلى واجبات تجاه الذات بعيدا عن المجتمع، وبعيدا عن الفردانية المتعالية. بل هي تغذي نفسها على النزعة النفسية والمطالب الإغرائية، أي هي ثقافة تقوم على النرجسية والنظر إلى الذاتية، هي ثقافة الذات التي لا تتحرك انطلاقا من أوامر مجتمعية، بل تقوم على عشق الذات واعتبار الذاتية معيارا في تحديد قيمة القيم. ومن سمات ما بعد ثقافة الأخلاق نزع القداسة عن الأخلاق ذاتها، تحدده الذات الباحثة عن المتعة والنرجسية التي من سماتها أن القيمة فقدت قيمتها، وخلقت الشعور بأن المثل الأعلى الأخلاقي هو تاريخي نسبي ليس متعال. وهي نزع تأثيم فكرة الأنانية التي كانت غير محمودة، فاليوم: الأنانية تعطي لها قيمة وتعلي من شأنها…تلغي مشروعية أن الفعل الخلقي هو من أجل النفس وليس من أجل المجتمع.
من هنا يخلص المحاضر إلى أن حصيلة العتبة الثانية من العلمنة الأخلاقية تحولها إلى أسلوب في العيش وإنتاجها لتوعكات في جسم الانسان المعاصر، وتفكك العلاقات الاجتماعيىة مع نشوء العلاقات التعاقدية…فهي ثقافة هجر الأخلاق الكبرى.
أما الجزء الثالث فيتناول فيه د. بلعقروز الأصول الفلسفية التي أفرزت أسلوب العيش الذي يعيشه الانسان المعاصر، والذي يشتق الأفكار من حركة الواقع ومن سمات الانسان الحالي…إنها فكرة الفردانية التملكية وعنوانها التصرف تبعا للمصلحة وليس للمثل الأخلاقية العليا، وكان المفكر الألماني ماكس شتيرنر قد صاغها في كتاب يعتبر إنجيل مفهوم ثقافة ما بعد الأخلاق، وهو بعنوان: الأوحد وملكيته. ومذهبه أن أي شيء لا يخدم مصلحتي ليس قضيتي.. قضيتي منفردة، ولا شيء يعلو عليّ.
وشرح المحاضر الصيغ الإنسانية التي أفرزها لنا هذا النموذج الإنساني. أنتجت لنا الإنسان السائل والثقافة السائلة والحب السائل، فإنسان ثقافة ما بعد لا يستطيع التنبأ بالمستقبل وليس له خيالات. وحسب زيغمونت باومان فإن الاعلام والاعلانات التجارية أفرغت الحقيقة من قيمها المتعالية. ويقول إن الانسان المعاصر سلبته ثقافة الاستهلاك، وتتشربه الوقائع، إنسان المتعية. في كتاب: “أفول الواجب: الأخلاق غير المؤلمة للأزمنة الديمقراطية الجديدة” للفيلسوف الفرنسي جيل ليبوفتسكي يفهم المفكر الفرنسي جيل أزمة الانسان المعصر على أنها أزمة الإنسان الغربي الأوروبي، الذي تغيرت عنده قيمة التسامح إلى ثقافة اللامبالاة، والرياضة في النظام الأخلاقي القديم الذي كانت قيمة ضمن قيم الفريق والشجاعة، إلى ثقافة متعة الجسد. كما أفرزت لدينا نموذج الإنسان المدين تجاه الدين بل تجاه المالكين الماديين الذي عليه ديون من أجل بناء الإنسان، بل من أجل استراتيجية التحكم بأن نجعل من الانسان مدينا وبالتالي جائعا..كما عند أمارثا صن الهندي الذي اعتبر الاقتصاد فرعا من فروع الأخلاق لكنه انفصل عن الأخلاق، ودعا إلى اقتصاد أخلاقي من أجل إعطاءه فرصا أوسع. هذا إضافة إلى الإنسان النرجسي الجائع.
وختم الباحث محاضرته بثلاثة أمور في غاية الأهمية: أولا ذكر بعض محاولات التغلب على الأزمة، مثل إيجاد بديل الإنسان الوقّار في مقابل اإنسان الذي أفرزته ثقافة ما بعد الأخلاق، والدعوة التي جاء بها جيلوبيسكي إلى الأخلاق الذكية المطبقة: أي إلى نوع من الحوار بين الفردانية والجماعة، وبين الأنا والآخر، ومفهوم الإنسان المركب عند إدغار موران الذي فيه يعترف الإنسان بالأبعاد المتعالية والوجدانية ويؤسس لحضارة التضامن والترابط الاجتماعي. وثانيا: اقترح المحاضر مفهوم الإنسان الوقّاف، أي المتبصر بالمآلات والمتثبت، الناظر إلى التاريخ كي يتحرر منه، وإلى المستقبل كي يتبصر الأبعاد والمآلات. وثالثا: تفاعل الباحث مع أسئلة الجمهور المتابع لمحاضرته من خلال تخصيص وقت ناقش فيه أسئلته التفاعلية.
تعليقات الزوار ( 0 )