مزيج من الفرح والغضب اختلطا في نفوس الجزائريين، أثناء المسيرات الشعبية التي ميزت الجمعة الأخيرة، التي تنهي سنة من الحراك في الجزائر. خرجت منها شخصيا، في نهاية اليوم، بنوع من المرارة، بل الخوف الذي حاولت أن أتحاشاه وأتهرب منه، بالدخول في النقاشات الكثيرة التي شاركت فيها طول يوم المسيرة، مع أصدقاء لم التق ببعضهم منذ سنوات طويلة، حضروا مسيرة العاصمة التاريخية، من كل ربوع الجزائر ومن المهجر.
مسيرة العاصمة التي كانت هذه المرة مسيرة وطنية، استقبلت فيها المدينة أبناء العديد من أبناء الجهات، بما فيها أقصى الجنوب، رغم أنواع التضييق التي لاقوها في الطريق، وغلق أبواب العاصمة أمامهم من قبل الأجهزة الأمنية، كما كان يحصل في السابق مع أبناء منطقة القبائل القريبة.
خوف انتابني لم يكن جديدا عليّ، فقد عشت ما يشبهه في السابق، بعد نهاية بعض المسيرات التي تميزت بزخم كبير، كما كان الحال هذا الأسبوع، وأنا أعاين مدى الإصرار الكبير في عيون الجزائريين، وفي لغتهم المعبرة عن مطالبهم التي لم تتحقق حتى الآن. إصرار جعل الجزائريين يصبرون سنة كاملة، حافظوا خلالها على سلمية مسيراتهم، وعلى طابعها الشعبي ووطنيتها.
رغم أشكال متعددة من التحرشات الأمنية والسياسية. خلال سنة كانت عامرة بالأحداث السياسية من كل نوع، لم تؤثر في الجزائريين، ولم تجعلهم يحيدون عن أهدافهم التي خرجوا من أجلها في أول مسيرة منذ سنة، بالتمام والكمال.خوف أشعر به أكثر، بعد كل تصريح رسمي وخطاب للرئيس الجديد وحكومته. رئيس – مهما كانت شروط وحيثيات انتخابه – يبدو حتى الآن في موقع «المترشح» وليس الرئيس المنتخب، الذي يقرر وينفذ، وهو يتعامل مع مطالب شعبه المعروفة والمكررة، التي خرج الملايين، منذ سنة للتأكيد عليها في الشتاء والصيف، في أيام العطل ورمضان، لا تحتاج إلى وسيط أو مفاوض من أي نوع للتعامل الإيجابي معها. رئيس يعتقد أنه حقق إنجازا كبيرا، عندما أعطى تصريحا لبعض مديري الصحف الوطنية، لا يبث مباشرة ويكاد يعتذر السائل عن طرح سؤاله البديهي اثناءه.. رئيس جديد يقارن نفسه مع الرئيس المخلوع الذي فقد القدرة على الحركة والكلام لسنوات، وهو على رأس السلطة. لتكون المقارنة الغريبة هذه لصالح الرئيس الجديد، القادر على الكلام والحركة وحتى استقبال الصحافيين.
خوف أشعر به وينتابني بقوة، بعد كل تعيين في المواقع الرسمية، وأنا أشاهد مثل غيري، كيف تعاد رسكلة الوجوه التي كانت لآخر دقيقة مع العهدة الخامسة للرئيس المخلوع، تقدم كعنوان للمرحلة الجديدة، لما بعد الحراك، تقترح لشعب قام أصلا ضد العهدة الخامسة، وكل من روّج لها ودعمها من الوجوه التي أهانت الجزائريين بممارسات كانت أحد الاسباب المباشرة لخروجهم في هذه المسيرات، منذ سنة.خوف يزداد منسوبه عندما أشاهد هذا التذاكي الذي تتعامل به السلطة، مع مطالب الجزائريين، وهي تدعي أنها تحققت ولم يبق منها إلا القليل، في وقت يصر فيه الجزائريون على أن مطالبهم في أغلبيتها لم تتحقق حتى الآن، إذا استثنيا القليل منها كإبعاد الرئيس المخلوع وفتح بعض ملفات الفساد على أهميتها. سلطة تحاول إقناع الجزائريين، أن تنظيم حصة تلفزيونية حول الحراك هو فتح للمجال السمعي ـ البصري، وأن إطلاق سراح بعض شباب الحراك ـ سجنوا ظلما وعدوانا ـ هو تحرير للعدالة، وأن وقف التحرش بالحراك لجمعة واحدة معناه إطلاق باب الحريات أمام الجزائريين!
ما يخيفني فعلا هو سوء التفاهم التاريخي هذا، العميق، بين الشعب الذي يخرج كل أسبوع في مسيرات ثلاث مرات في الأسبوع، للقول إنه يريد تحقيق مطالبه التي ينتظر تحقيقها، وسلطة ترى أنها حققت أغلبية المطالب، في وقت مازال المحبوسون في السجون من ناشطي الحراك، ومازال فيه الإعلام مكمما والعدالة غير مستقلة والفساد مستشريا والحريات الفردية الجماعية غير محترمة.كنت أعرف كغيري أن التغيير السياسي في الجزائر لن يكون ميسرا ولا سهلا وأنه قد يأخذ وقت. ليس بسبب ضعف إصرار الجزائريين، أو قلة تجنيدهم، بل بسبب ما يميز النظام السياسي المركوب بخوف كبير، من أي تغيير سياسي جدي. بسبب الفساد الكبير المستشري داخل نظام ريعي احتلته نخب فقيرة، في الغالب لا تتصور نفسها خارج جنته. نخب مقطوعة الصلة بشعبها، رغم هذه الأصول الشعبية لبعضها، فقدت القدرة على الاستشراف وصناعة البدائل، مازالت تصر على القراءة الأمنية.
الأهم من الريع والفساد وهذه القطيعة بين النخب الرسمية والمواطنين بحمولتها النفسية ـ السياسية، هو ما عُرف عن النظام السياسي من تعددية صناعة واتخاذ القرار، التي تزداد حدتها في ظروف الأزمة، كما هو حاصل هذه الأيام، بين واجهة مدنية، تحاول أن تقتنع بأنها هي التي تقرر وتنفذ، وعمق عسكري ـ أمني هو صاحب القرار الفعلي. نظام تتغير واجهته لكن يبقى عمقه العسكري ـ الأمني صامدا كل مرة، مما يحول كل عملية تغيير إلى سراب، يزيد من عمق الشرخ بين المواطن والسلطة التي فقدت كل رصيدها من الثقة.
ثقة من الصعب استرداد أي جزء بسيط منها، إذا استمر هذا الإنكار الذي يميز سلوكيات السلطة وخطابها، سيزيد بكل تأكيد في هذا الإحساس، الذي كان حاضرا بين الجزائريين في آخر مسيرة، بأن النظام يستهين بسلمية حراكهم، بل يستغفلهم وهو يعلن عن ترسيم يوم 22 فبراير/شباط كيوم وطني، تحققت فيه جل مطالب هذا «الحراك المبارك»، الذي لم يعد مباركا، بعد إبعاد بوتفليقة وحاشيته منذ شهور، ما يفترض أن يعود الجزائريون إلى بيوتهم. في حين يصرون فيه هم على الخروج في مسيرات كل جمعة وثلاثاء وأحد، وقد يتحول الأمر إلى خروج في مسيرات كل أيام الأسبوع، إذا زاد فيه هذا الشرخ النفسي ـ السياسي بين السلطة والمواطنين.
شرخ قد يجعل الجزائر كمجتمع – تغير كثيرا وتسيّس واكتشف مصادر قوة جديدة – غير قابل للتسيير من قبل السلطة الحاكمة الحالية، ومؤسساتها الفاقدة للشرعية التي يراد لها أن تستمر بالثقافة السياسية نفسها وحتى بالوجوه نفسها، في وقت يطالب فيه المواطن بالقطيعة الكلية مع هذا النظام الذي جربه لمدة عقود، اقتنع في الأخير بضرورة القطيعة معه كنظام ـ وليس كأشخاص فقط – تحول إلى خطر على البلد، وعلى الدولة الوطنية التي يريد الجزائريون بناءها على أسس جديدة، اعتمادا على حراكهم الشعبي، يتم التعامل معه كفرصة تاريخية أمامهم، وهو يدخل سنته الثانية هذا الأسبوع .
*كاتب جزائري
تعليقات الزوار ( 0 )