شارك المقال
  • تم النسخ

ما وراء الطور الفيزيقي

يصطدم الإنسان في العديد من الحوادث القاسية والمؤلمة في حياته منذ نعومة أظفاره، كما تتنوع ردود فعله إزاء كل منها، ويبقى “الموت” أثقلها سطوة على قلبه.

وعلى الرغم من الصورة الكبيرة للموت والتي تعبر عن الانتقال المرحلي من الواقع الفيزيقي، لما وراءه، إلا أن “الموت” يكاد يشكل في أحد جوانبه “هماً دائماً”، وقلقاً يقظاً تذكر الإنسان بحتميته، كلما اقترب من نسيانه، سيما أن الذات تظل محاطةً بشيء من الرهبة إزاء كل ما جهلت معالمه وحيثياته الدقيقة.

وفي صورة مواربة فقد تخطى الإنسان تضارب المشاعر تجاه الموت، واتخذ سبيله في اعتماده موقفاً، أو قراراً شريفاً، أو خلاصاً دون الخلاص من الضرورات التي تشكل كرامة الإنسان، وثبات مبادئه، ومنهم كثر من الفلاسفة والمفكرين والمؤمنين الذين انتظروا الموت بهدوء حين خيروا بأن يبدلوا مواقفهم وقيمهم وعقائدهم سواءاً الفكرية أو الدينية.

وفي حين أن صورة الموت تطورت وتبدل الموقف الإنساني إزائها على مر العصور والأزمان، إلا أنها لا تزال في الكثير من جوانبها تمثل حقيبة غامضة، اقتصر علمها على الخالق سبحانه وتعالى، فهي ابتلاء من جهة وأداة اختيار بين العباد من جهة ثانية، لقوله تعالى: ” الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا” . كما يبقى الموت في طبيعة وقوعه وحتمية تجربته على كافة الكائنات الحية عاملاً فلسفياً قوياً ومحتدماً مع الطبيعة الإنسانية، سيما ذات التعلق القوي بمادة الحياة من موجودات معنوية ومادية، فالإنسان يشهد خلال حياته العديد من النماذج التي حازت علواً في المرتبة العلمية، والعملية، ناجحةً في صناعة “أسطورة بشرية” لكنها سرعان ما تجد كل ما ملكته “من ماديات” خلال حياتها يواجه العدم واللاجدوى، مما يؤكد الحقيقة الناصعة للضعف الإنساني “المستدام”، ولا بد من التنبيه إلى أن الحتمية المصاحبة لهذا القدر الجمعي لبني البشر، لم تقلل من قيمة الحياة، أو المكانة المرتبطة بها والتي يمكن ملاحظتها في الموقف الحازم للإسلام من هدرها، والإساءة لقيمتها في سلوكيات مثل تناول المخدرات، أو إنهائها من خلال”الانتحار”.

ومن هنا نجد أن الفلسفة الإسلامية إزاء الموت لم تركز على توضيح مستوى القوة من الضعف الإنساني وحسب، بل كرّست هذه الحقيقة في الشحذ الإنساني نحو اختيار نوعية السلوك وانتقائه بحيث ينجح في اختيار ما يمكنه مصاحبته في رحلته ما بعد الحياة، وقد ورد في القرآن الكريم العديد من الآيات الدالة على ذلك، من مثل قوله تعالى: ” حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت ..” ، فالموت هو انتهاء الفرصة الممنوحة للإنسان من أجل تقديم المزيد من “رصيد العمل الصالح”، فلا مجال بعده للعودة، مما يعني أن الإنسان لا بد له من أن يبذل قصارى جهده في شتى سبل الخير والصلاح طالما هو على قيد الحياة.

وفي قوله تعالى: “وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصّدّق وأكن من الصالحين” ، وبالتالي فإن الرسائل الربانية العظيمة دائماً تحمل ما يتجاوز الصورة السطحية للأمور، فعلى أهمية الوعظ والتذكير المرتبط بالموت، وعلى فائدة استحضار تفاصيله وقسوته، إلا أن هناك الكثير من الأفكار الهامة التي لا بد من تأصيلها في الحديث عن الموت، فهو في أقل اعتبار محرك للحياة، ودافع للصلاح، وقارب للنجاة، ومعيار إيماني لقياس الصبر الذي يقدمه كل منّا على ذاته حتى يلقى الله عز وجل –إذنه وكرمه-، والصبر الذي يكابده عند فقدان من يحب. وبالتالي فإن تحويل معنى الموت من الانقطاع والانفصال التام لمعنى الجسر الممتد ومحطة العبور هو في غاية الأهمية، لما له من انعكاسات على توجه السلوك الإنساني.

أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي