نشرت صحيفة غارديان مقالا لمحررها الدبلوماسي تناول بالتحليل التغيير الذي قد يطرأ على النظام العالمي جراء فيروس كورونا المستجد “كوفيد-19” الذي حصد حتى الآن أرواح أكثر من مئة ألف شخص، وأصاب نحو 1.7 مليون منذ ظهوره في الصين في ديسمبر الماضي.
واستهل المحرر الدبلوماسي للصحيفة، باتريك وينتور، مقاله متسائلا: هل بدأت ردود فعل دول العالم على الجائحة تُحدث تغييرا في ميزان القوى بين الصين والغرب؟
وقال إنه من السابق لأوانه على ما يبدو الحديث عن العواقب السياسية والاقتصادية لسلام بعيد المنال، في ضوء وصف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لما يحدث في العالم الآن بأنها “حرب ضد عدو غير مرئي”.
على أن قادة العالم والدبلوماسيين ومحللي الجغرافيا السياسية يدركون أنهم شهود على انبلاج فجر عصر جديد بعين على مكافحة الوباء وأخرى على ما ستخلفه هذه الأزمة من إرث للعالم.
وسائل الإعلام
ويرى الكاتب أن الأيديولوجيات واتحادات الدول المتنافسة والزعماء وأنظمة التماسك الاجتماعي، تستغل وسائل الإعلام للتأثير على الرأي العالمي.
ويعتقد أن الجميع في هذه “القرية العالمية” بدؤوا يستخلصون الدروس والعبر، ففي فرنسا، أكد ماكرون أن “هذه الفترة علمتنا الكثير”، وأن كثيرا من الأمور اليقينية والقناعات ستتلاشى.
ثم إن العديد من الأشياء التي اعتقدنا أنها مستحيلة في الماضي تحدث الآن. واليوم الذي ستنقشع في هذه الجائحة بانتصار البشرية، لن يمثل عودة لسابقه، فالإنسانية ستكون أقوى أخلاقيا، حسب تعبير كاتب مقال غارديان.
وفي ألمانيا، توقع وزير خارجيتها السابق زيغمار غابرييل أن يكون الجيل الجديد أقل سذاجة فيما يتعلق بالعولمة. وفي هونغ كونغ، كُتب على أحد الجدران “لن تعود الأمور إلى ما كانت عليه، لأن وضعها السابق كان هو المشكلة في الأساس”.
هنري كسينجر
أما هنري كسينجر وزير الخارجية في عهد الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون، فينصح الحكام بالاستعداد الآن للانتقال إلى نظام عالمي لما بعد فيروس كورونا.
ويمضي الكاتب بالاستشهاد بأقوال كبار الشخصيات العالمية بشأن توقعاتهم لمرحلة ما بعد كورونا. وينقل هذه المرة عن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش القول “إن العلاقة بين القوى العظمى لم تكن أبدا مختلة بهذا الشكل”، مؤكدا أن جائحة “كوفيد-19” تبرهن بشكل كبير أن على العالم إما أن يتضافر أو أن يهزمه الفيروس.
وتحتدم النقاشات في أروقة المؤسسات البحثية العالمية ليس حول التعاون بين الدول، بل عمّا إذا كانت الصين أم الولايات المتحدة هي التي ستقود عالم ما بعد كورونا.
ويعلق باتريك وينتور على ذلك بالقول كأنما هذه الجائحة تحولت إلى منافسة حول زعامة العالم، مشيرا إلى أن الدول التي تصدت للأزمة بفعالية أكثر هي التي ستحظى بالشعبية.
مجموعة الأزمات
وتقول مجموعة الأزمات التي تتخذ من العاصمة البلجيكية بروكسل مقرا لها، في تقييهما لما ستسفر عنه جائحة كورونا من تغيير دائم في السياسة الدولية، “بإمكاننا الآن أن نلاحظ وجود روايتين متضاربتين تحظيان بالرواج: الأولى أن الدرس المستفاد (من الفيروس) هو أن على الدول أن تتضافر حتى تتمكن من هزيمة كوفيد-19 على نحو أفضل. والثانية أن على الدول الابتعاد عن بعضها حتى يتسنى لها حماية أنفسها” من الجائحة.
وبرأي كاتب المقال، فإن تفشي فيروس كورونا لا يشكل اختبارا للقدرات التشغيلية لمنظمات من شاكلة منظمة الصحة العالمية والأمم المتحدة فحسب، لكنه يختبر أيضا الفروض الأساسية المتعلقة بالقيم والصفقات السياسية التي تعززها.
ويزعم كثيرون أن الشرق قد كسب هذه الحرب بين الغرماء المتنافسين، فالفيلسوف الكوري الجنوبي بايونغ تشول هان يرى في مقالة بصحيفة إلباييس الإسبانية أن المنتصرين هي “الدول الآسيوية مثل اليابان وكوريا الجنوبية والصين وهونغ كونغ أو سنغافورة بسبب عقليتها الاستبدادية المستمدة من الإرث الثقافي للعقيدة الكونفوشيوسية”.
ويضيف بايونغ أن الناس في تلك الدول لا ينزعون كثيرا إلى التمرد، وهم مطيعون أكثر من نظرائهم الأوروبيين، ويثقون بالدولة، وحياتهم أكثر تنظيما. وفوق هذا وذاك، أظهروا التزاما صارما بالرقابة التي فرضتها عليهم السلطات في بلدانهم في مواجهة جائحة “كوفيد-19”.
ويتابع الفيلسوف الكوري الجنوبي أن الجوائح في آسيا لا يكافحها علماء الفيروسات والأوبئة وحدهم، بل أيضا خبراء الحاسوب والبيانات الضخمة.
وتنبأ زاعما أن “الصين بات بإمكانها الآن الترويج لدولتها البوليسية الرقمية كنموذج للنجاح في درء الوباء. وستفاخر أكثر بتفوق نظامها”.
التضحية بالحريات
ويدعي بايونغ أيضا أن الناخبين الغربيين رغم ميلهم للحياة الآمنة والتواصل الاجتماعي، ربما يكونون على استعداد للتضحية بتلك الحريات.
بدوره، يعتقد ستيفن والت أستاذ الشؤون الدولية بكلية جون كنيدي للعلوم الحكومية بجامعة هارفارد أن الصين قد تنجح، مضيفا أن فيروس كورونا سيسرّع وتيرة تحول موازين القوى والنفوذ من غرب الكرة الأرضية إلى شرقها.
ويستطرد إلى القول إن كوريا الجنوبية وسنغافورة أظهرتا استجابة أفضل للوباء، بينما أبلت الصين بلاءً حسنا بعد تجاوزها أخطاء البدايات. أما ردود فعل الحكومات في أوروبا والولايات المتحدة -والحديث لا يزال لستيفن والت- فقد اتسمت بالارتياب الشديد، الأمر الذي سيضعف على الأرجح نفوذ النموذج الغربي.
وعلى النقيض من ذلك، يرى شيفشانكر مينون الأستاذ الزائر بجامعة أشوكا في الهند أن التجربة برهنت حتى الآن على أن تعامل الأنظمة الاستبدادية والشعبوية مع الجائحة لم يكن هو الأفضل بأي حال، مؤكدا أن الدول التي تصدت مبكرا وبنجاح للأزمة –مثل كوريا وتايوان- هي دول ديمقراطية لا يحكمها زعماء مستبدون أو شعبويون.
ويتفق الكاتب والمفكر الأميركي من أصول يابانية فرانسيس فوكوياما مع هذا الرأي، إذ يقول في هذا الصدد إن الخط الفاصل في الاستجابة الفعالة للأزمات لا تضع الأنظمة الاستبدادية في كفة والديمقراطيات في كفة أخرى. فالعامل الحاسم في الأداء ليس هو نوع النظام بقدر ما هو قدرة الدولة على الاستجابة للكوارث، وفوق كل ذلك درجة الثقة بالحكومة.
وأثنى فوكوياما على ألمانيا وكوريا الجنوبية في هذا الخصوص، فكوريا الجنوبية تروج لنفسها على أنها القوة الديمقراطية على عكس الصين، حيث استطاعت التعامل مع الأزمة على أفضل ما يكون التعامل. وتعج صحافتها الوطنية بمقالات تنوه إلى أن ألمانيا اقتفت أثر النموذج الكوري الجنوبي في إجراء فحوص جماعية لمواطنيها.
ويخلص كاتب المقال في صحيفة غارديان البريطانية إلى أن الاتحاد الأوروبي معرّض لخطر أن يكون هو الخاسر في معركة فيروس كورونا الفتاك. وتلفت نيكول غنيسوتو نائبة رئيس معهد جاك ديلور –وهو مؤسسة فكرية مستقلة تتخذ من باريس مقرا لها- الانتباه إلى أن الاتحاد الأوروبي أظهر عدم جاهزيته وعجزه وجبنه، فضلا عن تردده على نحو صارخ.
تعليقات الزوار ( 0 )