لا شك أن مساهمات “نادي قضاة المغرب” ضمن النسيج المجتمعي المدني شكلت، ومنذ تأسيسه، إضافة نوعية في المجال التداولي الحقوقي، وذلك لعدة اعتبارات، أهمها مكانة حقوق الإنسان ضمن أدبياته ووثائقه، حيث اختار، عن وعي وقناعة، جعل منظومة حقوق الإنسان مرجعا من مرجعياته الأساسية إلى جانب: الدستور، والقانون، والتوجيهات الملكية السامية ذات الصلة.
ويتجلى هذا الاختيار، بالأساس، في الأهداف التي يرمي إلى تحقيقها والعمل على تنزيلها، حيث صَدَّر قائمتَها في المادة الرابعة من قانونه الأساسي بـ: “الدفاع عن الضمانات الأساسية للحقوق وحريات المواطنين”.
وهو الهدف الذي تمت ترجمته في أدبيات “نادي قضاة المغرب” خلال العديد من المحطات، أهمها:
الأولى: عندما دعا الجهات المعنية، بموجب بلاغه الصادر بتاريخ 03 يوليوز 2012، إلى العمل على أنسنة ظروف الاعتقال والوضع تحت الحراسة النظرية وأماكن الاحتفاظ بالأجانب في وضعية غير قانونية، وبإلغاء العقوبات الحبسية في الجرائم المرتبطة بقانون الصحافة باعتبارها سلطة رابعة.
الثانية: عندما أكد على تشبثه، بموجب بلاغه الصادر بتاريخ 13 دجنبر 2018، بضرورة احترام القيم والمبادئ الدستورية المتعلقة بحقوق التقاضي وقواعد سير العدالة، ولا سيما مبدأ حماية حقوق وحريات الأشخاص والجماعات وأمنهم القضائي، ومبدأ الأصل في المتهم البراءة، والحق في ضمانات المحاكمة العادلة، تطبيقا للفصول 117 و119 و120 من الدستور.
الثالثة: عندما تشبث، في بلاغه الصادر بتاريخ 07 يناير 2023، بضرورة احترام مبدأ تيسير أسباب استفادة جميع المواطنين والمواطنات، على قدم المساواة وبما يضمن تكافؤ الفرص، من الحق في الولوج إلى مختلف المهن القانونية والقضائية حسب الاستحقاق، تطبيقا للفصل 31 من الدستور.
الرابعة: عندما أكد على تشبثه، بموجب بلاغه الصادر بتاريخ 20 يناير 2023، بضرورة احترام القيم والمبادئ الدستورية المتعلقة بالحقوق والحريات الأساسية، ومن ضمنها: حرية الفكر والتعبير والرأي والصحافة، وضمان حقوق الدفاع، والحق في ضمانات المحاكمة العادلة، ومبدأ الأصل في المتهم البراءة، والحق في حماية الحياة الخاصة، تطبيقا للفصول 23 و24 و28 و119 و120 من الدستور.
وإذا كانت الحمولة الحقوقية لهذا الهدف وما لازمته من أجرأة على أرض الواقع لا تُخطِئُها العين، فإن المادة الرابعة المذكورة قد أعقبته بهدف ثان لا يقل أهمية عن الأول، وهو: “الدفاع عن السلطة القضائية واستقلالها”. ولا ريب أن غاية هذا الدفاع هي الأخرى ذات حمولة حقوقية بامتياز؛ ذلك أن استقلالية السلطة القضائية لا تعتبر حقا للقضاة، وإنما هي حق من حقوق الإنسان وجب تمتيع المواطنين به، وكل دفاع عنها فهو دفاع عن جانب مهم من حقوق الإنسان.
ويكفي تدليلا على ذلك تكريس هذا الحق في المادة 8 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر سنة 1948، وفي المادة 14 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الصادر سنة 1966. وهو عين ما جاء في التوجيهات الملكية السامية المضمنة برسالة صاحب الجلالة الملك محمد السادس -حفظه الله- الموجهة إلى مؤتمر العدالة الأول بمراكش سنة 2018، حيث قال إن: “مبدأ الاستقلال لم يُشرع لفائدة القضاة، وإنما لصالح المتقاضي”.
وإذا تقرر هذا، تبين أن مناط حماية حقوق الإنسان في كل دولة هو استقلالية السلطة القضائية، إذ لا ضمان لهذه الحقوق إلا بها وعن طريقها، لذلك جاء النص على هذه العلاقة الجدلية ضمنيا في الفصل 117 من الدستور المغربي، القائل: “يتولى القاضي حماية حقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم وأمنهم القضائي، وتطبيق القانون”.
ومهما يكن من أمر، فإن “نادي قضاة المغرب”، وإيمانا منه بالدور الخطير الذي يلعبه القضاء في ضمان حقوق الإنسان، لم يكتف بتضمين هذه الثقافة في وثائقه وأدبياته، وإنما تجاوز ذلك إلى تفعيلها على أرض الواقع، وذلك من خلال دفاعه عن استقلالية السلطة القضائية وتحصينها في العديد من المحطات، وتأسيس مجمل مواقفه بخصوص ذلك على الشِّرعة الدولية لحقوق الإنسان، سواء العامة منها أو تلك المتصلة بالقضاء.
ولا ريب أن الدفاع عن استقلالية السلطة القضائية بما هو ممارسة حقوقية، ينطوي، من باب أولى وأحرى، على الدفاع عن الضمانات الممنوحة للقضاة التي هي أساس تلك الاستقلالية في بعدها الوظيفي، إذ لا يمكن تصور هذه الاستقلالية في غياب التنزيل الحقيقي لضماناتها، والتي لا تخرج، بأي حال من الأحوال، عن ترسانة حقوق القضاة المنصوص عليها في الدستور والقانون والإعلانات الدولية. وهذه الحقوق، وإن مُنحت للقضاة، فإنها ممنوحة في عمقها لفائدة صاحب الحق في استقلالية القضاء، وهو: المواطن.
لذلك، يتعين النظر إلى حق المواطن في استقلالية السلطة القضائية نظرة شمولية، تَعتبر حقوق القضاة جيلا جديدا من حقوق الإنسان، وتُدخل في الاعتبار علاقتها الوجودية بضمان تلك الاستقلالية.
وبغض النظر عن هذا الجانب من الفعل الحقوقي لـ “نادي قضاة المغرب”، فقد أسس هذا الأخير عدة مبادرات كان الهدف منها تنزيل ثقافة حقوق الإنسان وتكريسها على مستوى الممارسة القضائية، ومن أهم هذه المبادرات تبنيه لمشروع: “إعمال الاتفاقيات الدولية في مجال حقوق الإنسان أمام المحاكم الوطنية”، والذي تم بشراكة مع جمعية المحامين والقضاة الأمريكان، حيث نُظِّمت بموجبه عدة ورشات تكوينية لفائدة القضاة في مختلف الدوائر الاستئنافية، أطَّرَها مختصون في هذا المجال.
وجدير بالذكر في هذا المقام، أن هذا الانخراط الحقوقي يَمْتَحُ وجودَه ودعمه، فضلا عن دستور المملكة المغربية لسنة 2011 وقوانينها المكملة له، من الانخراط الكلي لبلادنا في تفعيل منظومة حقوق الإنسان، وذلك على مستويين اثنين:
أولهما: من خلال مساهمتها في تطوير آليات هذه المنظومة على الصعيد الدولي، والمشاركة في وضع المعايير الرامية إلى حماية الحقوق المكرسة بمقتضاها والنهوض بها، وكذا المصادقة والانضمام إلى مختلف مواثيقها وآلياتها.
ثانيهما: من خلال إحداثها للمؤسسات الوطنية الداعمة لها، خصوصا المجلس الوطني لحقوق الإنسان، والمندوبية السامية لحقوق الإنسان، ووسيط المملكة، دون أن ننسى دور المجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة في تنفيذ برنامج تعزيز قدرات القضاة في مجال حقوق الإنسان.
*رئيس “نادي قضاة المغرب”
تعليقات الزوار ( 0 )