لماذا يضرب “رجال الدين” كل هذه الأسوار من النصوص، لتحصين أنفسهم من الناس؟ ولماذا يصرون على اعتبار أنفسهم “علماء الدين” و ليسوا، فقط، “رجاله” كما القساوسة والرهبان ؟ ما الفرق بينهم وبين أولئك؟.
آما آن الأوان أن يستفيق هؤلاء من غفلتهم وسباتهم، ويعترفوا أنه لا فرق بينهم وبين نظرائهم من القساوسة والرهبان؟ و أن كل ما يعتبرونه فروقا بينهم وبين أولئك ليس إلا كذبا؟.
لا شك أن الوقت قد حان للقيام بنوع من الثورة، أو ما يشبه الثورة، لتحرير الناس، بل و تحرير الدين نفسه من قبضة “رجال الدين”، كما لا شك أنه لا يتم ذلك، أي تحرير الدين والناس من قبضتهم، إلا بذبح تلك “الأبقار المقدسة” التي يطلق عليها “رجال الدين” وكسر وتحطيم تلك “الأصنام” و “الأوثان” التي أضفت على نفسها “القدسية” وصدقها الناس.
إن هذا الموضوع من القضايا ذات الخطورة، ومع ذلك فالتورط فيه مسألة ذات أولوية ملحة اليوم، فقد فرض “رجال الدين” على الناس، و ألزموهم أن يعترفوا لهم بقيمة ومكانة لا يستحقونهما، وذلك بما زعموه ووضعوه من النصوص، التي يبدو لكل عاقل أنها موضوعة ومكذوبة، ولكن تم تناولها بشكل مبالغ فيه، إلى درجة أن الناس آمنت بها وصدقتها، و تعاملت معهم وفقها كيف سيمكننا أن نقرا مرويات و نقول كهذه: “علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل” ولحوم العلماء مسمومة، من شمها مرض ومن أكلها مات؟، كيف سنقرأ مرويا كهذا أو نقلا كذاك؟ وهما كما يبدو ما وضعهما، و غيرًهما، إلا أولئك، الذين يستفيدون منهما. فمن أولئك العلماء الذين لُحومهم مسمومة؟ و على أي أساس هي كذلك من دون المسلمين والمؤمنين؟ ينبغي أن نتوقف طويلا عند مفهوم “العلماء”، إذ أن الناس، و بإيعاز من هؤلاء “القساوسة”، لا يتوقفون عند تحديد العلم والعلماء وتحرير القول فيهما، فهذا التحديد لا يخدمهم. إن من الضروري أن ندرك أن “العلماء” الذين يُفترض أن لحومهم مسمومة ـ وهي تكون كذلك بقدر ما هي لحوم عامة المسلمين والمؤمنين مسمومة أيضا ـ هم أولئك الذين يتعلمون العلم و يعملون بمقتضاه، ويقصدون به وجه الله، ويكون العلم عندهم مُورثا للخشية والخوف من الله،
ولا يكون غرضهم منه، ومن تعلمه الظهور على الناس و التكبر عليهم وتصدر مجالسهم، كما تنص على ذلك المرويات، أي أن لا يكون القصد والمراد منه طلب الدنيا والحرص عليها. إذا علمنا أن العلم المراد هنا هو الذي يُورّث الخشية أي تقوى الله، و يترتب عليه العمل بمقتضاه وليس غير، فلننظر إلى واقعنا، و إلى واقعنا فقط، لننظر آثار هذا العلم على المنتسبين إليه والزاعمين أنهم أهله وأصحابه و اربابه، فهل العلم عندهم ـ أو الذي تعاطوه ـ يورث التقوى ويحصلها أم فقط يعزز مكانتهم الاجتماعية، و يؤمن لهم مصالحهم الدنيوية ؟ أما الحديث عن الإخلاص لله في طلبه، أي العلم، فهو ضرب من المزايدات، يدركه الجميع ويسكت عنه.
فبخبرتنا في الحياة، وبالأقوال التي يتم تناقلها بين طلبة العلم أنفسهم وعنهم ، يتأكد لنا بما لا يدع مجالا للشك، أن مجرد الاهتمام بإخلاص النية لله أثناء تفكير طالب العلم في طلبه لا يحصل أبدا، ولا يخطر على قلبه، إنما الذي يطغى على تفكير هذا الطالب أو ذاك، و ما يتعلق قلبه به، هو رؤيته” رجال الدين” و ما هم عليه من الرفاهية و النعيم، والقدرة على التمتع ببهجة الحياة الدنيا و زينتها، وبالتالي، يكون أقصى ما يتطلع إليه الطالب أن يحظى بما حظيت به نماذجه، أي العيش على الريع، و عدم بذل أي جهد في الحياة، كما كان حال “العلماء” في الماضي، وهذا ما يجعل الفارق بينه وبين المنتسب إلى المخزن، أن هذا الأخير تأتيه السخرة أو يُحصلها عنوة، وبالقوة، في حين أن” الفقي” ينالها بالرضى و الاحتيال كما يلاحظ العروي.
وقد نُقل عن عدد من المتقدمين قولهم بأن الإخلاص لم يكن دافعهم لتلقي العلم، و إنما حملهم عليه تعلقهم بالدنيا و حبهم السيادة على الناس و تصدر مجالسهم أو كما قالوا. و يشرح هذا الأمر تفسير بعض “مُتفلسفة التاريخ” كون جل علماء الإسلام من العجم وليسوا عربا، بالقول ان العجم كانوا موالي، و كانوا في الطبقة الدنيا اجتماعيا، و لم يكن أمامهم إلا العلم وسيلة لتجاوز هذه المرتبة وهذه الوضعية، وتحقيق المكانة الاعتبارية، بخلاف العرب، فإنهم لم يكوا يشعرون بتدني مكانتهم، وبالتالي لم يتعاطوه إلا قليلا منهم، وهذا أحد أشهر” تلاميذ” الألباني و”مريديه” (الحويني) يعترف أنه ، هو وغيره، ممن اعترضوا على أشياخ علم الحديث، إنما كانوا يردون عليهم ليقال عنهم أنهم علماء و شيوخ، اي طلب الاشتهار بين الناس
موضوع الإخلاص في طلب العلم، إذن، والرغبة فيما عند الله، ليس إلا دعوى، لا حظ لها من الواقع، وينبغي أن يُقر بذلك الناس أجمعون، وهم يقرون على أية حال، غير أن إقرارهم هذا لا يؤثر، فقد نقل أحمد بن الصديق في كتابه “جؤنة العطار” ما معناه أن المصريين يقولون في مثل دارج لهم أن الولاية خير من العلم، وإنما يقصدون ذلك في الدنيا، و مفاده أن من يشتهر بالولاية يسارع الناس إلى خدمته، في حين أن من يتعاطى العلم، فإنه لا يعتمد إلا على وظيفته ولا يتكل إلا عليها. إذا تبين لنا أن الذي ينتسب إلى مجموعة طلاب العلم الشرعي، لا يكون همه أثناء دراسته هذا العلم وطلبه إلا دنيا يصيبها وغرضا منها يحصله، بقي أن نعرف لماذا يضربون عليهم هذه الأسيجة من النصوص الباطلة والمكذوبة، والتي يكون الغرض منها فقط، تأبيد سلطتهم على الناس، و التمكين لأنفسهم عليهم، وهم لا يفتؤون يروجون أنهم وحدهم العارفون بالله، المتقون له، وأنهم الموقعون عنه، الدالون عليه، وأنهم ورثة أنبيائه، و الساهرون على رسالاتهم، ويخوفون كل من تسول له نفسه أن ينتقدهم ويرد عليهم، ليبين، لهم وللناس، أنهم لا يختلفون عن غيرهم، ولا يفضلونهم في شيء، و أن كل ما يُرَوج من قبيل ذلك ليس إلا كذبا، أقول يخوفونه بالقول: أنه لا أحد من حقه أن يتحدث عنهم إلا من كان مثلهم وندا لهم، اي “عالما” مشهودا له من قبلهم، و المعنى هنا واضح، أي حتى يكون عارفا بالحدود التي لا يجوز تعديها، لئلا ينكشفوا و يفتضحوا، ويتحرر العوام منهم ومن سلطتهم. وهذه الدعوى تجد لها شواهد فيما كتبه بعضهم ردا على بعض، وإن من هذه الشواهد ما يجعل ما يُفترض تزكية متبادلة من قبل بعضهم لبعض، ليست محل شك فقط، ولكنها قطعا مكذوبة و مردودة.
وحسبنا هنا ما كتبه المعاصرون عن بعضهم، فقد كتب أحمد بن الصديق في “جؤنة العطار” وفي غيره، مخازي و فضائح نسبها لكثير ممن يشار إليهم بالبنان، و جمعها أحدهم في كتاب عنونه بـ”تنبيه القاري بفضائح الغماري” قدم له المغراوي، نقل فيه رميه عبد الحي الكتاني في كتابه” كشف الأستار المسبلة” وطعنه في أخلاقه، بكلام غاية في البذاءة وغاية في القبح، كالزنا و اللواط و ترك الصلاة والصوم وغيرها، و رميه أخاه عبد العزيز بصداقته للفرنسيين، و اتهامات قبيحة غير هذه، و سرقته لكتبه بل وتكفيره هو باقي إخوانه، وغيرها من الاتهامات الخطيرة، التي وجهها إليه ـ بالمقابل ـ أخوه الزمزمي في الرد عليه و تسفيهه، وذلك في كتاب أسماه “تعريف المسلم بمن يدعي السنة وهو مجرم” وجعل عناوين كتابه هذا، عناوين مخزية، كاللواط و الزنا و غيرهما، وقالوا إن الزمزمي أحرقه بعد موت أحمد هذا، وقد اطلع عليه بوخبزة.
وهذا الألباني يشن حربا ضروسا ضد أقرانه و نظرائه، ممن يشاركونه الصنعة، وينافسونه عليها، فقال عن أحدهم أنه غير مخلص و مفلس، و قال عن آخرين أنهم أعداء “السنة و التوحيد”، في إشارة منه إلى أن من لم يكن على منهجه، مقرا بمشيخته، فليس من “السنة” وليس من أهل “التوحيد” في شيء، بل يكون من أعدائهما. و قال عن أخرين أن أخلاقهم سيئة وأنهم مغمورون يتطلعون إلى الشهرة، و مغرورون ببعض ما حصلوه من العلم، واستهزأ ببعض، كالشيخ كشك وقال عنه “كشكش”، فرد عليه أكثر من واحد و كتب حسن السقاف كتابا في تسفيهه و تبكيته أسماه ” قاموس شتائم الألباني” وحمل عليه بنفس سلاحه، وقذفه بذات قنابله، فقال أنه يفعل ذلك من أجل أن لا تُشترى إلا كتبه، وأنه سرق أموال السلفية، وأنه أيضا غير مخلص، و أنه يتلاعب بتصحيح الحديث و تضعيفه، وأنه مشكوك في العلم الذي يزعمه، وأنه يرد على خصومه بطريقة لا تشتم فيها رائحة الآداب و الأخلاق الإسلامية التي ينبغي مراعاتها.
والواقع ان كل ما نقله حسن السقاف أو كتبه كائن في الألباني، وفي غيره كثير. والذي يتابع هذا الموضوع يرى العجب العجاب، و يندهش مما هم عليه من “التواضع” على المستوى الأخلاقي، ثم مع كل هذا، يصرون على مزاعمهم، أنهم ذوو كرامات و مواهب، و من جملة عباد الله المصطفين الأخيار، و أنه لا يسع “العوام” من الناس إلا السماع لهم وطاعتهم، إذ هم( حراس الدين وحماة العقيدة) ، وهم الأعلم بالدين دائما، وما هم كذلك، إن هم إلا يكذبون، فانظر إلى الفتاوى التي يصدرونها بحق ذوي السلطان لتجد فيها السماحة واليسر و الرحمة، و قارنها بالتي يصدرونها لعامة الناس ممن هم دون ذوي السلطان، لتجد فيها الشدة والعسر و الغلظة، ثم انظر إلى أسلوبهم في مخاطبة العلية من القوم و قارن بينه و بين أسلوبهم في مخاطبة من هم دونهم. لا نريد من هذا الموضوع أن نسقط من شأنهم أو ان نحط من قدرهم، و لا نريد أن نقول أن عامة الناس أفضل منهم و اشرف، و إنما نريد فقط، أن نقول أنهم لا يختلفون عن غيرهم، ففيهم الصالح و فيهم دون ذلك، كما هو شأن العباد، كما نريد أن ننبه العامة من الناس أن لا يغتروا بما يضفيه “رجال الدين” على أنفسهم من “القداسة” و ما يزعمونه من الكرامات و المواهب، فإن كل ذلك لا يغني من الحق شيئا . ثم إننا لا نقصد بكلامنا هذا كل “رجال الدين” فلا ريب أن فيهم الصالح المخلص، و فيهم التقي الورع، فمن كان منهم فإنا لا نتعرض له و قولنا لا يعنيه .
تعليقات الزوار ( 0 )