Share
  • Link copied

لماذا نشبه “Ma Di Tau” أكثر مما نظن؟

كنت أشاهد فيلما وثائقيا من إنتاج National Geographic بعنوان “The Last Lions”، يوثّق رحلة لبؤة تُدعى Ma di Tau في دلتا أوكافانغو في بوتسوانا. اسمها يوحي بالهيبة والأمومة، لكنها في تلك الأرض القاسية كانت مجرد أم وحيدة، فقدت زوجها في صراع دموي على الأرض والماء، تبحث عن ملاذ لأشبالها الذين لم يبلغوا سن الرشد بعد، وربما قد لا يرون فجرا آخر، فقانون الغاب لا يرحم ولا يمهل الصغار الوقت للاحتفال بأعياد الميلاد. تابعتها بصمت ثقيل وهي تمضي بأشبالها عبر المستنقعات والسهول، تبحث عن ملاذ آمن، فإذا بي أمام مشهد ظل يوجع ذاكرتي من حين إلى آخر: ذهبت Ma di Tau لتصطاد تاركة خلفها شبليها خلف شجيرات النخل، لكنها لم تدرك أن قطيع الثيران الذي همت باصطياده قد سبقها بخطوة وهم باصطياد أشبالها، مر القطيع هائجا على شجيرات النخل رافسا ما كان مختبئا بينها، حين عادت لبؤتنا كان القطيع قد رحل مخلفا وراءه شبلا مكسور الظهر وآخر في عداد المفقودين. اقتربت من شبلها المكسور شمته، لعقته، ثم رفعت رأسها وبعينين حزينتين ابتعدت على مضض مخلفة شبلها المكسور وراءها.

في تلك اللحظة خُيّل إلي أن قرارها نفسه كان يثقل كاهلها كما أثقلت الجراح ظهر شبلها، لكنها تابعت السير بخطوات بطيئة وعازمة، دون أن تلتفت، وكأنها اضطرت لترك جزء من روحها كي تنجو هي وحدها. فهل يمكننا أن نلومها حقًا؟ وبأي حق؟ لم يكن في قرارها قسوة عمياء بل حكمة موجعة أمْلتها عليها الطبيعة. أن تبقي على من يستطيع الاستمرار وتترك من أثقلته جراحه. في هذا المشهد الصارخ تتجلى غريزة الانتقاء التي تحكم حياة المخلوقات جميعًا، نزعة تحمي النوع وتضمن بقاءه، ولو على حساب الأضعف. وبينما كنت أتابع زئير الأسود وهدير السافانا في الوثائقي، خطرت لي تلك الفكرة التي يصعب تجاهلها: أليست فينا نحن البشر أيضًا هذه الغريزة القديمة؟

نحن أيضًا نختار. نبحث عمّن يستطيع حمل أعباء الحياة معنا. قد نسمي ذلك حبًا، شراكة، انجذابًا، لكن خلف الأسماء الرقيقة يختبئ معيار صارم: القدرة على الاستمرار. في العلاقات، كما في الغاب، يميل الناس إلى من يضمن لهم الأمان والقوة، إلى من يستطيع الصمود في وجه العواصف. لا نقولها بصوت عالٍ، لكننا نعرفها في أعماقنا.

Ma di Tau لم يكن لها ترف الإنكار أو التزيين. تركت شبلها المكسور والجريح على التراب وتقدمت، لأنها كانت تعرف أنه لن ينجو وقد يهلكان معا. بالنسبة لها صار نقطة ضعف، ولكي تنجو عليها أن تظل قوية، يقظة. وربما نحن أيضًا نفعل الشيء نفسه بطرق أقل وضوحًا. نختار من يساعدنا على البقاء، ونترك من لا يستطيع المضي معنا، ولو غلفنا ذلك باللطف والحنان.

ومع ذلك، لم تكن قصتها نهاية للفقد وحده. فبعد صراع طويل مع العطش والمفترسات والوحدة، وجدت Ma di Tau قطيعًا جديدًا من اللبؤات وصارت قائدة بعد أن كانت فريسة. وهناك، وسط الحذر والزئير، أبت الطبيعة إلا أن تكافئ Ma di Tau بأن أعادت إليها شبلها المفقود، الناجي الوحيد من ذكرياتها المريرة. لم يكن ذلك خلاصًا كاملًا ولا عودة بلا ألم، لكنه كان علامة على أن الخسارة قد تمنحنا أحيانًا شيئًا من العزاء. وكأن الطبيعة، رغم قسوتها، تترك لنا دومًا هامشًا صغيرًا للأمل.

Share
  • Link copied
المقال التالي