العلاقة بين العمل العسكري و العمل السياسي والدبلوماسي علاقة تكاملية وليس تناقضية، ولو رجعنا لتجارب حركات التحرر الوطني وتابعنا الصراعات الدائرة في العالم اليوم من أفغانستان إلى إيران وسوريا وليبيا الخ لوجدنا أن كل الأطراف المتصارعة تقاتل أو تتهيأ للحرب وتفاوض في نفس الوقت، وما لا يمكن تحقيقه بالحرب يمكن تحقيقه أو تحقيق بعضه بالمفاوضات، ومع إدراكنا لخصوصية الحالة الفلسطينية وطبيعة الخصم الذي نواجهه إلا أنه وفي ظل موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية الراهنة فإن القول بالمقاومة المسلحة حتى تحرير كل فلسطين وربط كل ما يتعلق بحياة الشعب الفلسطيني وواقعه بكل تعقيداته وتشابكاته بهذا الهدف ،وبالرغم من شرعية هذا الهدف، إلا أنه يخرج عن نطاق العقل والمنطق ولا يصلح للتعامل الدولي مع القضية.
مشكلة بعض الفاعلين السياسيين الفلسطينيين أنهم لا يقرأون التاريخ ولا يستفيدون من تجارب الشعوب كما لا يحترمون الشعب الفلسطيني ويريدون تحويله لحقل تجارب لأفكارهم الجاهلة ومصالحهم الخاصة، حيث يصرون على اصطناع تعارض ما بين المقاومة وخطابها من جانب والتسوية السياسية ومستلزماتها من جانب آخر، وهو تعارض لا يستقيم مع العقل والمنطق ولا مع تجارب حركات التحرر والصراعات الدولية عبر العالم.
لا توجد مقاومة أو حرب من أجل الحرب أو بدون رؤية لتسوية سياسية، ومعادلة (إما نحن أو هُم) التي تم تبنيها في بداية الصراع مع الصهيونية منتصف القرن الماضي لا تصلُح في هذا الزمان كأساس للتعامل مع الصراع مع الكيان الصهيوني ومع العالم ،ليس لأن الحق الفلسطيني ضاع بالتقادم ، بل لأن الـ (نحن) الآن ليس (نحن) ذاك الزمان و (هُم) الآن ليسوا (هُم) ذاك الزمان، أيضا لا يمكن تحقيق تسوية سياسية عادلة دون حد أدنى من موازين القوى وهذه الأخيرة توفرها المقاومة بكل أشكالها ووحدة الشعب ووقوفه خلف من يفاوض نيابة عنه، وفي الحالة الفلسطينية فإن المفاوض الفلسطيني يعتمد فقط على فهلوته السياسية وعلى حسن نية إسرائيل وقرارات الشرعية الدولية وهي أمور لا تنفع مع عدو كالكيان الصهيوني ولا تكفي للتوصل لسلام وتسوية سياسية عادلة .
في المشهد الفلسطيني الذي تجاوز حدود العبثية وألا معقول نجد فصائل مقاومة ترفض الاعتراف بإسرائيل وبقرارات الشرعية الدولية وتتمسك بحقها في مقاومة الاحتلال بكل الوسائل الممكنة حتى تحرير كل فلسطين والقضاء على دولة إسرائيل ويؤيدها في ذلك نسبة من الشعب الفلسطيني ومن الشعوب العربية والإسلامية وقلة من الدول يؤيدونها في موقفها، وحركة فتح والسلطة ومنظمة التحرير والرئيس أبو مازن يعترفون بإسرائيل وبقرارات الشرعية الدولية ويؤيدون التسوية السياسية والمفاوضات ويؤيدهم في ذلك جزء من الشعب الفلسطيني وغالبية شعوب ودول العالم.
هذا التباين موجود منذ توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993 بل قبل ذلك وقد أدى لانقسامات عمودية وأفقية، سياسية ومجتمعية، مست كل مناحي الحياة بحيث أصبحت وحدة الشعب والقضية مهددة بشكل خطير، وهذا التباين يتم توظيفه من نخب سياسية لتعزيز حالة الانقسام والتغطية على الفساد وتبرير استمرار تواجدها في السلطة في غزة والضفة، وفي اعتقادنا أن هذا التباين لم يعد تباين وتعارض برامج سياسية أو تعارض بين برنامج وطني وبرنامج غير وطني بقدر ما أصبح يخفي صراعاً على السلطة تغذيه أجندة خارجية .
وهكذا، ما أن تحدث صدامات مسلحة بين فصائل المقاومة وجيش الاحتلال وخصوصاً على حدود قطاع غزة إلا ونجد من يتحدث عن عبثية المقاومة وعما تُلحقه بالمواطنين من أضرار بشرية ومادية وبالقضية من أضرار سياسية لا تقارن بالخسائر التي تلحق بإسرائيل، وإذا ما تحدث مسؤول في السلطة والمنظمة عن التسوية السياسية والمفاوضات مع إسرائيل أو التقى مسؤول فلسطيني بمسؤول إسرائيلي، كما جرى قبل أيام عندما التقى الرئيس أبو مازن بوزير الحرب الإسرائيلي، حتى تنهال الاتهامات من فصائل المقاومة للرئيس والسلطة والمنظمة بالتفريط والخيانة والتحالف مع الاحتلال الخ .
استمرار المشهد السياسي الفلسطيني على هذه الحال يستدعي العودة لموضوع سبق وأن كتبنا عنه كثيراً وهو العلاقة بين المقاومة والتسوية السياسية وهل أن المقاومة بديل عن التسوية السياسية ونشدان السلام وما تتطلبه العملية السياسية من مفاوضات مع الخصم؟ ولماذا لا يتم الجمع بين النهجين في سياق استراتيجية فلسطينية متعددة المسارات من منطلق أن التسوية السياسية تحتاج لعناصر قوة يتسلح بها الفريق المفاوض وهذه العناصر توفرها حالة مقاومة شعبية مشفوعة بموقف شعبي وحزبي يرفض الاعتراف بإسرائيل ويمارس حالة مقاومة أو صدام مع إسرائيل، كما أن المقاومة تحتاج لخطاب وهدف عقلاني وأداة للتفاوض والتواصل مع إسرائيل والعالم للاستفادة من فعل المقاومة وتوضيح أهداف المقاومين وحصاد ما قد تنجزه المقاومة.
من غير المقبول مطالبة حركة حماس وفصائل المقاومة الاعتراف بإسرائيل، وقد رأينا أن الذين اعترفوا بإسرائيل لم يحصلوا بالمقابل على أية فائدة وطنية بل استمر الاحتلال والاستيطان وتصر الحكومات اليمينية على عدم الاعتراف بحل الدولتين، وحتى لو اعترف كل الشعب بكل أحزابه بإسرائيل وقرارات الشرعية الدولية فلن يغير الكيان الصهيوني موقفه أو يتخلى عن عقيدته الصهيونية ورؤيته التوراتية بل سيزداد صلفا، ولكن في نفس الوقت لا يمكن لحماس وفصائل المقاومة المطالبة بتشكيل حكومة أو المشاركة في حكومة وحدة وطنية وتنتظر من العالم أن يعترف بها وبهذه الحكومة وهي ترفض الاعتراف بإسرائيل و بقرارات الشرعية الدولة، لأن أية حكومة فلسطينية ستتعامل مع العالم الخارجي وأول طرف مضطرة للتعامل معه هو إسرائيل، وسيفرض العالم الحصار على هذه الحكومة ولن يتعامل معها وقد جربنا تصرف العالم مع الحكومة التي شكلتها حركة حماس برئاسة إسماعيل هنية بعد انتخابات يناير 2006 والحصار المفروض اليوم على قطاع غزة.
أيضاً أن تطلب فصائل المقاومة من حركة فتح ومنظمة التحرير التخلي عن نهج السلام والتسوية السياسية العادلة ومطالبتها بالعودة للكفاح المسلح سيكون بدون جدوى حيث لا ضمانة بأن الحال سيكون أفضل في ظل الانقسام ومع موازين القوى القائمة.
إذن الحل يكمن في التوفيق بين التمسك بالسلام والتسوية السياسية وفي نفس الوقت عدم التخلي عن المقاومة الشعبية وعن حالة الرفض الشعبي للكيان الصهيوني وعدم اعتراف الأحزاب به، وهذا الأمر يتحقق بالوحدة الوطنية وباستراتيجية وطنية متعددة المسارات كما ذكرنا بعيداً عن الأجندة الخارجية.
نعلم أن البعض سيقول إن الموضوع قديم ومستَهلَك أو قد فات الأوان على إصلاح النظام السياسي ولا مبرر للحديث عن التسوية السياسية ما دام قادة العدو الصهيوني بينيت ولابيد وغيرهم يرفضون السلام بل وحتى التفاوض للبحث عن تسوية عادلة على مبدأ حل الدولتين، وفي يقيني أن من يقولون بذلك إما محبَطون وفاقدون الثقة بأنفسهم وبالشعب، أو يبررون للمستفيدين من الوضع القائم أعمالهم وتصرفاتهم، وفي حالة وحدة الشعب والنظام السياسي وتفعيل المقاومة الشعبية وتغيير آلية المفاوضات والفريق المفاوض يمكن إعادة تحريك مسار عملية التسوية السياسية وإجبار إسرائيل على الجلوس على طاولة المفاوضات ليس حباً منها بالسلام بل خوفا على وجودها .
تعليقات الزوار ( 0 )