ما زال الجزائريون يتذكرون أن الترويج لبوتفليقة، لتسهيل وصوله إلى منصب الرئاسة في 1999 اعتمد أساسا على ما قيل إنه خبرة دبلوماسية يمتلكها الرجل، وعلاقات متينة مع عواصم العالم المؤثرة في الغرب والشرق، ومعرفة مباشرة بصناع القرار على المستوى الدولي، اكتسبها اعتمادا على تجربته الطويلة كوزير خارجية 1963- 1979 كان فيها المنفذ والمشارك- ليس دائما – في صناعة قرارات البلد على المستوى الدولي.
الترويج لبوتفليقة اقتضى من جهة أخرى السكوت على فشله المدوي في تسيير ملف الصحراء الغربية في آخر أيام حكم الجنرال فرانكو، وما تلاه من تقاسم للتراب الصحراوي بين المغرب وموريتانيا لاحقا – منتصف السبعينيات. كما تم السكوت على تسييره الكارثي لوزارة الخارجية، التي تعامل معها كإقطاعية جهوية، كاد يوصله للسجن بتهم فساد ثقيلة، لولا تدخل الرئيس الشاذلي، من دون نسيان ما تسببت به غياباته المتكررة خارج البلد، وترك موقعه في الوزارة شاغرا كوسيلة احتجاج وتمرد على بومدين، في عز أزمة مجموعة وجدة الحاكمة في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، وما ولدته من تأثيرات سلبية في صناعة القرار الخارجي للجزائر.
علاقة معقدة بالعمل الدبلوماسي، جعلت بوتفليقة يدخل لاحقا في عداوة، مع أي وزير خارجية، يعينه هو شخصيا، اقتناعا منه بأن الجزائر لم تلد أحسن منه وزيرا للخارجية. حالة نفسية – سياسية جعلته، رغم بقائه في الحكم عشرين سنة، يعين أكثر من ستة وزراء خارجية، وعدد مماثل من كتاب الدولة والوزراء المنتدبين للخارجية. في وقت كانت فيه الجزائر في حاجة إلى استقرار كبير في هذا المنصب بالذات، نتيجة الاستمرارية التي ميزت العقيدة الدبلوماسية للبلد، في عالم مضطرب. بوتفليقة الذي لم يترك فرصة فعلية لأي وزير خارجية لتسيير أي ملف جدي على المستوى الدولي، خاصة عندما يتعلق الأمر ببعض العواصم المهمة، مثل موسكو، باريس، لندن وواشنطن وبعض الدول الخليجية التي احتكرها لنفسه ولمجموعته الحاكمة والمسيطرة على المقاليد الرئاسية، التي تحولت عمليا إلى وزارة خارجية موازية، في وقت تم فيه تغييب افريقيا تماما، رغم أهمية العمق الافريقي بالنسبة للجزائر، فلم يزر بوتفليقة دولة افريقية واحدة رسميا طول فترة حكمه، مقابل سبع زيارات لفرنسا. الشيء نفسه الذي قام به وزير خارجيته مراد مدلسي، الذي قاطع عواصم القارة السمراء تماما، فلم يزر فيها أي بلد افريقي بشكل رسمي، رغم بقائه مدة طويلة على رأس الخارجية.
مقدمة طويلة كانت ضرورية للوصول إلى فكرة أساسية يعاينها الجزائريون هذه الأيام بالعين المجردة، بمناسبة اندلاع أزمة معبر الكركرات، والعلاقات التي زادت توترا مع المغرب، نتيجة تطورات أزمة الصحراء. مفادها أن تركة بوتفليقة الثقيلة لا تقتصر على الملفات الداخلية، فهي تعني كذلك الملفات الدولية، ومكانة الجزائر الدولية، التي تسبب في عزلها عن العالم، جعلت الكثير من الدول العربية تتبارى في فتح قنصليات بالعيون، وهي التي ليس لديها مواطن واحد مقيم في هذه المناطق. كما حصل مع دولة الإمارات والأردن، القائمة يمكن أن تتوسع إلى دول عربية أخرى، لم تنجح الجزائر منذ بداية أزمة الصحراء في إقناعها بالملف. عكس الكثير من البلدان الافريقية، التي بدأت هي الأخرى في النكوص عن مواقفها القديمة المؤيدة للصحراويين وللجزائر.
غياب الجزائر عن الساحة الدولية الذي استفحل نتيجة مرض بوتفليقة لمدة طويلة بداية من 2012 لغاية مغادرته السلطة، ودخول البلد في حالة عدم الاستقرار، وقبلها حالة الاضطراب السياسي والأمني في التسعينيات، تدفع ثمنها عدا ونقدا هذه الأيام في الملف الصحراوي والعلاقات مع المغرب، رغم ما يتوفر لديها من كفاءات دبلوماسية قام نظام بوتفليقة بتهميشها اعتمادا على مبدأ الولاء قبل الخبرة والكفاءة. كفاءات أنجزت نجاحات في فضاءات سياسية أخرى، كأمريكا الجنوبية وحتى أوروبا الغربية مع القوى الشعبية وليس مع الحكومات بالضرورة، اذا استثنينا حالة دول الشمال الأوروبي – السويد كمثال ـ في الدفاع عن الملف الصحراوي تحديدا. غياب دبلوماسي للجزائر عن الساحة الدولية، يمكن أن يستمر بعد مرض الرئيس تبون وغيابه عن الساحة السياسية الدولية، التي لا تعرفه كرئيس جديد، في وقت بدأت فيه بوادر مؤشرات – مازالت ضعيفة الحضور – عن تغيير في العقيدة الدبلوماسية وحتى العسكرية للجزائر، يمكن تلمسها في خطاب جديد مازال محتشما لحد الآن، يتجه نحو براغماتية أكثر في التعامل مع المحيط الدولي، قضاياه وملفاته الشائكة، بما فيها قضية الصحراء.
مؤشرات لن تأخذ مداها الفعلي ولا ملمحها النهائي، إلا إذا ربطناها بالوضع الداخلي للبلد وهو يمر بحالة عدم استقرار سياسي ومؤسساتي، ليس من مصلحة المغرب اللعب عليه، كما فعل المرحوم الحسن الثاني بُعيد استقلال الجزائر في خريف 1963 (حرب الرمال). على العكس مصلحة شعوب المنطقة في حل الجزائر لإشكالاتها الداخلية، وبناء مؤسساتها الشرعية، والتوجه نحو بناء اقتصادها وإنجاح انتقالها السياسي، الذي قام من أجله الحراك الشعبي، منذ انطلاقه، لتساهم في بناء المغرب الكبير، الذي لم تنجح نخب الدولة الوطنية في كل المنطقة في تجسيده بعد الاستقلال، بل بالعكس تم تعطيله والتشويش عليه.. مقارنة بمرحلة الحركة الوطنية وثورة التحرير. بناء مغاربي موحد لا يمكن الوصول إليه إلا بتجاوز العثرات الحالية، والحزازات بين الأنظمة، وتلك التي يمكن أن تتراكم مع الوقت بين النخب وحتى الشعوب، بما فيها قضية الصحراء التي يجب عدم القفز عليها، والتعويل على الوقت لحلها بعبارات فضفاضة لم تعد صالحة في الوقت الحاضر، لأنها ببساطة يمكن أن تتعقد أكثر، كما بدأ يحصل في السنوات الأخيرة، وتتسبب فيما لا يحمد عقباه بين الجزائر والمغرب، بكل تداعياتها على استقرار المنطقة المغاربية، في ظرف تظهر فيه نية بعض القوى الإقليمية، على الانتقام من الجزائر وعزلها أكثر، اعتمادا على تعثر الملف الصحراوي التي تحمل وحدها مسؤولية المأزق الذي يوجد فيه، كما هو حال فرنسا، وبعض أنظمة الخليج – الامارات تحديدا، وهي تعيش حالة تنمر في المنطقة المغاربية، كما هو الحال في ليبيا وخارجها، تُعاقب الجزائر من خلال الملف الصحراوي على مواقفها من قضايا عربية ودولية كثيرة، مرتبطة بسياستها الخارجية التقليدية، على غرار موقفها من القضية الفلسطينية والعلاقات مع إيران.
تعليقات الزوار ( 0 )